تعد بئر هداج واحدة من أكبر آبار الجزيرة العربية

تعد بئر هداج واحدة من أكبر آبار الجزيرة العربية، إذ يبلغ عرضها 65 مترًا وعمقها 13 مترًا، ولطالما كانت مصدرًا من مصادر الحياة والبهجة والثقافة منذ القرن السادس قبل الميلاد على الأقل؛ أي منذ أكثر من ألفي ونصف عام. ووقفت هذه البئر الأسطورية شاهدًا على التاريخ وأمست ملء السمع والبصر حتى أن الشعراء تغنوا بها.

ولا عجب أن يكون لبئر هداج لقبها الذي يمجدها ويخلد ذكرها، إذ يُقال لها «شيخ الجوية».

كما ينطوي اسمها «هداج» على بعض المعاني المثيرة للاهتمام، تخبرنا بها المؤرخة سلمى بنت محمد بكر هوساوي فتقول: ”في قواميس اللغة، مفردة «هدَّاج» مشتقة من «هدج»؛ أي من قارب بين خطواته في السير دلالة على الإسراع، وإشارة إلى سرعة جريان ماء هداج.

لمفردة هداج أيضًا علاقة بالمعبود «هدد» أو «أدد» معبود المطر والقمر والحب في الجزيرة العربية.

وكل هذه المعاني ترتبط بالخصوبة والخير وبداية الحياة الجديدة.“

لولا الماء لما كانت تيماء

لا ريب أن شيخ الجوية كانت شريان الحياة والسبب في ازدهار المجتمعات. تقع بئر هداج في تيماء؛ وهي واحة واقعة وسط صحراء من الكثبان الرملية وسلسلة جبلية؛ وهذا مكان لا تتوفر فيه المياه بسهولة. ولولا الماء لما كانت تيماء لتصبح تلك الواحة الغنَّاء (في الواقع، يعتقد بعض العلماء أن اسم المدينة يعني «هذا هو الماء» بلغة قديمة يعود تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد).

عاش الناس هنا لآلاف السنين بفضل مياه تيماء التي سمحت لهم بزراعة الأراضي واستضافة التجار وإطعام الحجاج. أيمكنك أن تتخيل وصولك إلى هذه الواحة
العامرة بالخيرات بعد طول السفر في الصحراء التي قد تصل درجات الحرارة بها في الصيف إلى 46 درجة مئوية؟

باتت تيماء محطة مهمة على طريق البخور. فكانت منذ أكثر من ألفي عام حاضرة تمر بها التجارة الدولية وما يصاحبها من حركة ونشاط... فهذا على الأقل ما تخبرنا به الاكتشافات الأثرية.

ومنذ عام 2004 على الأقل، تعمل فرق من علماء الآثار على اكتشاف المزيد من خبايا تيماء في قديم الزمان، ويعثرون على قطعة أثرية تلو الأخرى، يزيحون بها الستار عن الكثير من القصص التي كانت تنتظر بصبر تحت الرمال. وبئر هداج في صميم الكثير من هذه القصص.
 

كيف تفجرت الآبار هنا؟

نبدأ بالسؤال الأهم: كيف تكونت بئر هداج؟ توجد خزانات جوفية تحت طبقات من الصخور المسامية. وحين كان الناس يكتشفون أحدها، فما كان عليهم سوى الحفر لعمل بئر. ولكن كان عليهم أن يفعلوا أكثر من ذلك بالطبع. فإذا نظرت إلى بئر هداج، فإن حجمها الهائل يدل على أنها ثمرة تعاون جمع غفير من الناس، فالحجارة غير مثبتة ببعضها البعض بالملاط، ومع ذلك يُعتقد أنها ظلت راسخة مكانها منذ نشأة البئر. فهذا عمل فذ من روائع الهندسة القديمة! شأنها شأن النظام المصمم حول البئر وفوقها لإخراج المياه؛ نظام سحب مثير للإعجاب.

تحمل الأخشاب الموجودة فوق البئر بكرات خشبية تُعرف بالمحاحيل (ومفردها مِحالة). يوجد ما يزيد على 40 منها حول حافة البئر اليوم، ولكن لعلها كانت أكثر من ذلك في الماضي، إذ تشير بعض الأدلة إلى أنها ربما بلغت مائة محالة.

كان على كل بكرة حبل أو رشاء يُربط بطرفه قِربة كبيرة، وكانت القربة تُنزل في الماء، وحين تمتلئ تشدها ناقة تسحب الحبل من الطرف الآخر، فتمشي على مجرىً خاص يسمى «المنحاة».

ويُصب ماؤها في واحدة من أكثر من 30 قناة حجرية (أو سري الماء) مشقوقة في الأرض، فتنقل المياه إلى مزارع تيماء وبساتينها. لا ريب أن المضخات الميكانيكية ظلت غير مستخدمة لفترات طويلة، ولذا كان المزارعون يعتمدون على الجاذبية لإيصال المياه إلى بساتينهم، وبالتالي كان عليهم تسويتها حتى تبلغها المياه.

طوفان ثم إحياء وتجديد

وقفت بئر هداج شامخة لأكثر من ألف عام، ولكن اجتمعت عليها الزلازل والأمطار الغزيرة التي تسببت في طوفان مدمر في القرن التاسع الميلادي. واضطر أهالي تيماء إلى مغادرتها وابتلعت الصحراء البئر. ودخلت قصة بئر هداج فصلها التالي حين قرر رجل يُدعى سليمان بن غنيم الشمري إعادة حفرها مع أبنائه.

وهذه القصة مشهورة بين أهالي تيماء، بل ترجع شهرتها أكثر إلى أن سليمان بن غنيم كان من أشهر العائلات، وكان من الفضلاء المعروفين بالفعل قبل أن يهتم بالبئر ويعيدها إلى الحياة.

وفي عام 1953، أمر جلالة الملك سعود بن عبد العزيز بتركيب مضخات حديثة كبيرة على البئر حتى يتمكن كل مزارعي تيماء من الحصول على المياه متى شاءوا. انتفع المزارعون بهذا القرار الصائب الذي تسبب أيضًا في الاستغناء عن طريقة السواني التقليدية لسحب المياه وعن البناء التقليدي المصمم حول بئر هداج. ولحسن حظها أن أبناء المملكة اعترفوا بأهميتها كمعلم تاريخي ومصدر الكثير من القصص. وفي عام 2002، قام صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان، أمير منطقة تبوك، بترميم البناء التقليدي للبئر على نفقته الخاصة.

ولم يساهم هذا العمل في الحفاظ على هذا المعلم الأسطوري فحسب، بل سيخلد البئر في ذاكرة الأجيال القادمة، كما كانت جزءًا من ذاكرة الأجيال التي سبقتنا.

وعلى سبيل المثال، يتذكر الأستاذ سعود الماضي، مدير مكتب الآثار بتيماء، أيام صباه هنا والسباحة في بئر هداج فيقول: ”كانت أماكن السباحة قليلة، وكان هداج ملكية عامة أو ملكية مشاعة، فكان يسمح لنا الوقت ونسبح، وخصوصًا وقت الأعياد، فيوم العيد لا أحد يسقي، ويرتفع منسوب المياه.“

بئر هداج في الثقافة

لا تزال الكثير من القصص الأخرى حول البئر تتردد بين الناس، حتى أبعد من القصص المحلية، حتى بلغت من شهرتها أن ورد ذكرها في الأدب والشعر والأمثال. الدكتورة سلمى بنت محمد بكر هوساوي: ”إذا أراد العرب وصف شخص بالكرم، فيقولون له: مثل هداج تيماء لا يمل ولا ينضب.“

وجاء ذكر بئر هداج في شعر الرثاء والمدح أيضًا، إذ يقول الشاعر محمد السديري مثلاً:
وعيني عسى المولى يعجل فرجها *** يفوح ناظرها كما عين هداج

لا يمكننا التقليل من أهمية البئر الثقافية وأثرها العملي في حياة الأهالي، ولا تزال تبث الحياة والجمال في محيطها. وإذا حالفك الحظ بزيارة تيماء ورؤية بئر هداج بأم عينيك... فانظر إلى الأسفل، فعلك ترى سمكة أو سلحفاة في مياهها الخضراء.

آن دي بروين    |   التاريخ:٢٠ أبريل ٢٠٢٣

آن دي بروين
آن دي بروين واحدة من نخبة الكتاب المشاركين في مشروع «المتحف الحي» وتكتب نصوصًا وأدلة صوتية للمتاحف باستمرار، كما شاركت في تأليف كتاب بعنوان «لا تشترِ هذا الكتاب.. ريادة الأعمال للمبدعين» وآخر سبقه بعنوان «لا تشترِ هذا الكتاب.. إدارة الوقت للمبدعين»، وكلاهما صادر باللغة الإنجليزية. وتعشق الفن واللغات والتاريخ وتحب أن تأكل من عمل يدها.
تابعوها على إنستغرام لمتابعة صور الفن والطعام التي تعرضها @Acertainmissbrown.