لا نبالغ عندما نتحدث عن أهمية التمور في العلا بالمملكة العربية السعودية وللثقافة العربية جمعاء. فالعلاقة بين الإنسان والنخيل عبر العصور أرست لنا تراثًا ثقافيًا عريقًا ينتقل من جيل لآخر..

راث بلغ من الأهمية أن باتت المعارف والمهارات والتقاليد والممارسات المرتبطة بالنخيل من الثوابت المعترف بها في قائمة اليونسكو التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.

التمر من الموارد الأساسية في العالم العربي، ويرجع ذلك لأسباب كثيرة؛ فلا يقتصر الأمر على أن البيئة مواتية جدًا لزراعة أشجار النخيل التي تحتاج إلى درجات حرارة مرتفعة لتنمو، وإنما تتميَّز تمورها بأنها غنية بالعناصر الغذائية كالألياف ومضادات الأكسدة والسكريات التي تمدك بالطاقة. ولا تتوقف فوائدها على ذلك، بل تحتوي أيضًا على فيتامين «ب» وفيتامين «ج» بالإضافة إلى ما لا يقل عن عشرة معادن.

ومن المنطقي إذًا أن الصائمين كثيرًا ما يفطرون في رمضان على تمرة؛ إذ أنها تجدد طاقتك بسرعة وتمدك ببعض العناصر الغذائية التي تشتد حاجة جسمك إليها بعد الصيام.

ولا تقتصر خيرات النخيل على التمر، فمن يزرعونه يستخدمون كلَّ جزء منه، ومثال ذلك أن قلب النخلة (أو الجُمَّار) من المأكولات الطيبة، ويمكن الحصول عليه بقطع النخلة وأخذ الُّلب الداخلي من جذعها.

ولكن ليست أشجار النخيل مجرد أعجوبة غذائية أو فاكهة خفيفة شهية أو ظاهرة ثقافية، وإنما تعتبر أيضًا تفرُّدًا تاريخيًا وزراعيًا، فلها تاريخ عريق في جنبات الجزيرة العربية، فقد عثر العلماء على أدلة في واحة العلا تشير إلى أن أهلها زرعوا المحاصيل بها (ومنها التمور) منذ عام 4600 تقريبًا قبل الميلاد، وذلك بفضل خصوبة تربتها البركانية الخصبة ووفرة مياهها من العيون والآبار.

كما تتجلى أهمية النخيل في النقوش الموجودة بمملكة دادان القديمة، التي كانت تتخذ من العلا عاصمةً لها، ولا سيما بين التكوينات الصخرية المنتشرة في جبل عكمة، إذ كانت دادان على ما يبدو مركزًا دينيًا مهمًا خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، وكان الإله «ذو غابة» أهم الآلهة التي تُعبد بها. وتتضمن بعض النقوش الموجودة في جبل عكمة إشارات إلى احتفالات أو قرابين مقدمة لهذا الإله، ظنًا ممن يقدمونها بأنه قادر على حمايتهم أو زيادة محاصيلهم أو إنماء زراعتهم على سبيل المثال.

اكتشف علماء الآثار قلائد مصنوعة من التمور خلال التنقيب في المقابر القديمة بموقع الحِجر (أول موقع بالمملكة العربية السعودية يدخل قائمة اليونسكو للتراث العالمي) الذي كان ذات يوم مدينة نابضة بالحياة يسكنها الأنباط الذين كانوا شعبًا مقدامًا ومغوارًا. وتسلِّط هذه العقود الضوء على مدى أهمية التمور للحضارات التي شيدت تلك المقابر الشهيرة.

ما حجم إنتاج التمور سنويًا؟

تشتهر المملكة العربية السعودية بتمورها؛ فهي عامرة اليوم بما يصل إلى 300 صنف مختلف، متعددة الألوان والأحجام والمذاق، ويبلغ مجموعها 33 مليون نخلة. وينمو في واحة العلا وحدها نحو 2.3 مليون نخلة من أكثر من 120 صنفًا، أشهرها نخيل الحلوة الأحمر، وتنتج ما يزيد على تسعين ألف طن من التمور سنويًا.

التاريخ والذكريات

إن تاريخ النخيل العريق في منطقة العلا مسجلٌ جيدًا بين صفحات الكتب؛ فالرحالة العربي ابن بطوطة الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي طاف بلاد العالم الإسلامي وآسيا وسجل أسفاره في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» الشهير بكتاب «الرحلة».

وكتب ما يلي عن زيارته للعلا خلال رحلة الحج التي قام بها في عام 1328م: ”وبين الحِجر والعلا نصف يوم أو دونه، والعلا قرية كبيرة حسنة، لها بساتين النخل والمياه المعينة، يقيم بها الحجاج أربعًا، يتزودون ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من فَضْل زاد ويستصحبون قَدْر الكفاية، وأهل هذه القرية أصحاب أمانة.“

وبعد ذلك بخمسمائة وستين عامًا، حين زار المستكشف الإنجليزي تشارلز داوتي العلا، كانت بساتينها لا تزال تسر الناظرين، فوصفها في كتابه الصادر بعنوان «ترحال في صحراء الجزيرة العربية» قائلًا: ”يعتني المزارعون عناية بالغة ببساتين النخيل والليمون الحلو، وحفروا الأراضي المرتفعة بالوادي المتدرج حفرًا عميقًا حتى وصلت إلى مستوى عيون السقيا، فبدت المسارات العامة وكأنها جدران عريضة تفصل بين تلك البساتين، وعند المرور بها، تظهر رؤوس النخيل – وهي ليست باسقات هُنا – تشكل منظرًا جميلًا، وتبدو وكأنها تخرج من مستوى الأرض.

كما تنتج الواحة بالطبع الكثير من المحاصيل الأخرى كالحمضيات والقمح، ولكن لطالما كانت التمور محصولها المميَّز بفضل أهميتها للأهالي واعتزازهم بها. وكانت ركنًا أصيلًا من أركان الحياة اليومية لدرجة أنها ظلَّت تُستخدم في البيع والشراء بالمقايضة حتى سبعينيات القرن الماضي.

يتذكر الأستاذ/ عبد الرحمن محمد المطير بن حميد، صاحب «متحف أبو رائد للتراث»، كيف كان يجمع التمور في أيام طفولته ويستخدمها لشراء سلع أخرى، فيقول: ”حين كنا صغار، كنا نلقط التمر، سواء الحلوة أو البرني أو الأنواع الأخرى، الذي يسقط على الأرض بسبب الرياح القوية. فكنا نجمع التمر ونذهب لأخذ مقابله من الأشياء الغذائية مثل الحوت [السمك]. وكنت آخذ التمر وأروح لإحدى البائعات، فتكيله بالصاع، وتقول لك مقابله أعطيك كذا وكذا. يعني ممكن نشتري جبنة أو علب تونة أو سمك ناشف أو حلويات، وكل ذلك مقابل التمر.“

شجرة الحياة

لم تكن التمور، مهما تعددت فوائدها، الشيء الوحيد الذي تجود به أشجار النخيل، فاستخداماتها كثيرة لدرجة أن البعض يسميها «شجرة الحياة»؛ ومثال ذلك أن أسقف البيوت الصيفية في الواحة مبنية بجريدها، وجذوعها مستخدمة في عوارض الأسطح وأبواب المنازل، بل كان المزارعون يقومون في بعض الأحيان بتجويف تلك الجذوع ويستخدمونها لصنع قنوات لنقل المياه من الآبار أو العيون إلى المزارع والبساتين المجاورة لها.

وتُصنع الحصائر من خوصها، والحبال من ليفها، ويصنع الحرفيون المحليون الكثير من المنتجات المنزلية مثل المراوح (المهاف) والسلال (النفية) من سعفها. ويتذكر الأجداد أنهم كانوا يلعبون بألعاب مصنوعة من مواد من النخيل؛ وهي بالطبع مواد غير ضارة بالبيئة مقارنة بالبلاستيك. كما يتذكر الأهالي أنهم كانوا يصنعون الأحذية من السعف حين لم تتوفر لهم أحذية من الجلود، وكانوا يستخدمون السعف أيضًا لإشعال النار. وهكذا ترى أن شجرة النخيل كانت ولا تزال من مقومات الحياة اليومية.

وهذا ينطبق بالطبع على مزارعي النخيل أكثر من غيرهم، فلطالما كان حصاد التمور ركنًا مهمًا من حياة أهالي العلا على مدار العصور المتعاقبة، ويحصدونها من شهر يونيو إلى نوفمبر من كل عام، إذ لا تنضج كل التمور في آن واحد.

وسَل أيًا من أبناء العلا عن وقت الحصاد، وستجد أن معظمهم يتذكرون أيام الطفولة والصبا وهم يهرولون لجمع التمور حين تسقطها رياح الصيف القوية. 

يحصد الأهالي بعض التمور من الأشجار قبل أن تنضج، وذلك حين يتحول لونها إلى الأحمر أو الأصفر، ويضعونها في الشمس ويضعون فوقها شيئًا من التراب الساخن، ثم يتركونها نحو ثلاث ساعات تحت أشعة الشمس، فتنضج وتصبح رطبة وأغمق لونًا، وتُعرف هذه العملية باسم «الغَمق».

إلا أن المزارعين لا يحصدون كل التمور، فعادةً ما يتركون نخلة أو اثنتين في البستان حتى ينضج تمرها طبيعيًا ويأكلونه في وجبة الغداء، أو ما يسمى «المغداية». ما أطيب هذه التمور لدرجة أن الإنسان لا يكاد يشبع منها أبدًا!

لا يمكن إنكار دور النخيل في حياة من يعيشون في واحات العلا أو تيماء أو خيبر. فبيوتهم نفسها مبنية منها؛ وإذا تحدثت مع أيٍّ منهم، فسيؤنسك بذكريات تتعلق بالتمور.

ولِما لا؟ وهم يأكلونها ويبيعونها ويقايضونها، بل وتعتبر مصدر رزقهم في أحيان كثيرة. ولطالما ارتبطت حياة أهالي المنطقة بالنخيل منذ آلاف السنين. والآن، وبعد أن عرفت كل ذلك، ربما حين تأكل تمرة، ستقدر حلاوتها أكثر من ذي قبل.

آن دي بروين    |   التاريخ:٢١ أبريل ٢٠٢٣

آن دي بروين
آن دي بروين واحدة من نخبة الكتاب المشاركين في مشروع «المتحف الحي» وتكتب نصوصًا وأدلة صوتية للمتاحف باستمرار، كما شاركت في تأليف كتاب بعنوان «لا تشترِ هذا الكتاب.. ريادة الأعمال للمبدعين» وآخر سبقه بعنوان «لا تشترِ هذا الكتاب.. إدارة الوقت للمبدعين»، وكلاهما صادر باللغة الإنجليزية. وتعشق الفن واللغات والتاريخ وتحب أن تأكل من عمل يدها.
تابعوها على إنستغرام لمتابعة صور الفن والطعام التي تعرضها @Acertainmissbrown.