تعطينا المصائد الصحراوية الشهيرة نبذة نابضة بالحياة

تعطينا المصائد الصحراوية الشهيرة نبذة نابضة بالحياة عن ماضي المملكة العربية السعودية العريق قبل فجر التاريخ. فلقد أبهرت علماء الآثار بضخامتها وعراقتها ما يقرب من قرن من الزمان، ولم تبُح ببعض أسرارها إلا في السنوات الأخيرة.

تتصف بعض الاكتشافات الأثرية بأنها ضخمة لدرجة تحول دون اكتشافها إلا من الجو؛ وخطوط نازكا في بيرو خير مثال على ذلك.
ففي عشرينيات القرن الماضي، وفي مستهل حركة الطيران، لاحظ طيارون كانوا يحلقون فوق صحاري المملكة مترامية الأطراف أشكالاً غامضة على الأرض أسفل منهم.

تتكون من خطوط مستقيمة وزوايا ودوائر؛ لا يمكن أن تكون من صنع الطبيعة، بل لا بدَّ أنها من صنع الإنسان، ولكن أي إنسان؟ وما الغاية منها؟

تتميَّز الكثير من هذه المنشآت المبهمة بمسارات طويلة تؤدي إلى أقفاص حجرية مسوَّرة. وفي عام 1926 تقريبًا، شبهها العقيد ليونيل ريس، الطيار بسلاح الجو الملكي البريطاني، بذيل الطائرة الورقية ورأسها. وصارت تُعرف بهذا الاسم بالإنجليزية، لكنها تُعرف بالمصائد الصحراوية بالعربية، ولكن ظل الغرض منها مجهولاً.

ولكن لا خلاف على أنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ؛ لأنها سبقت الإمبراطورية الرومانية والأهرامات، بل سبقت أثر «ستونهنج» الحجري في إنجلترا. 

اكتشف العلماء أكثر من ألف من هذه المنشآت العملاقة في حرَّة خيبر البركانية الواقعة شمال غرب المملكة.

ويعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث، منذ نحو سبعة آلاف عام، ولم يكن الكثير من أهل المملكة يعلمون أي شيء عنها إلى أن ظهرت تلك الأشكال عبر التصوير الجوي والأقمار الصناعية.

واختلف العلماء والمؤرخون حول أهميتها وخرجوا علينا بنظريات كثيرة حول الغرض منها، فمنهم من يقول إنها حصون ضخمة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ومنهم من يقول أنها مواقع قديمة كانت مخصصة لإقامة الاحتفالات والطقوس، ومنهم من يقول أنها حظائر للماشية كانت تُستخدم لإيواء قطعان كبيرة من الحيوانات المستأنسة.

ويبدو الرأي الأخير أقرب إلى الحقيقة، فالراجح عند معظم العلماء الآن أنها كانت «مصائد ضخمة» ومعقدة، لصيد الحيوانات وليس لإيوائها.

وإن ما تخبرنا به عن تطور القدماء الذين بنوها ليسهم في إعادة تشكيل نظرتنا لعالم ما قبل التاريخ، بل ويطرح الكثير من الأسئلة المثيرة للاهتمام.

تصميم المصيدة

المصائد الصحراوية متعددة الأشكال والأحجام، ولكن تحتوي كلٌ منها على ثلاثة عناصر أساسية: زوجان من الجدران الحجرية الطويلة والمنخفضة، يُشار إليهما أحيانًا باسم «الخطوط الموجِّهة» أو «الجدران المرشِدة» أو «الذيول»، يلتقيان عند قفص حجري مسوَّر محاط بعدة حفر دائرية.

المصائد الصحراوية متعددة الأشكال والأحجام، ولكن تحتوي كلٌ منها على ثلاثة عناصر أساسية: زوجان من الجدران الحجرية الطويلة والمنخفضة، يُشار إليهما أحيانًا باسم «الخطوط الموجِّهة» أو «الجدران المرشِدة» أو «الذيول»، يلتقيان عند قفص حجري مسوَّر محاط بعدة حفر دائرية.

يمكن أن يتراوح طول «الذيل» كاملاً من بضع مئات المترات إلى أكثر من ستة كيلومترات، ويمكن أن تصل المساحة المفتوحة داخل القفص الحجري إلى عدة أفدنة.

ويُعتقد أنها كانت تُستخدم في صيد قطعان الحيوانات المهاجرة، وأغلبها من الغزال أو الوعول. وإذا كان الصيادون يعلمون أن قطيعًا معينًا قد تحرك من الغرب إلى الشرق، فكانوا يبنون فتحة المصيدة في طريق استقباله من الغرب.

 وتُساق حيوانات القطيع بين جداري «الذيل» حتى تصل إلى القفص، ثم تُساق داخل القفص إلى إحدى الحفر، فتسقط فيها فتموت، أو يقتلها الصيادون برماحهم. وكان بوسعهم قتل مئات الحيوانات بهذه الطريقة في فترة زمنية قصيرة.

عبقرية المصيدة

كان ارتفاع الجدران الحجرية التي كانت تتكون منها المصائد منخفضًا جدًا (80 سم تقريبًا)، وربما نتصور أن الحيوانات كانت تقفز من فوقها، لكن بناة المصائد كانوا يعلمون أنها ما كانت تستطيع القفز من فوقها، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على إلمامهم بكل شيء عن طبيعة فرائسهم.
صورة مقترحة: قطيع من الغزال

لا بدَّ أن البناة كانوا يعلمون أن الغزلان تسير بفطرتها مع أي شيء يمتد في خط مستقيم، ولذلك ساقتها غريزتها إلى السير بمحاذاة الجدران، ولم تحاول القفز فوقها لأنها لم تستشعر أي خطر يدفعها إلى ذلك.

ولما وصلت إلى القفص الحجري، كانت حفر القتل تقع في الغالب عند تقاطع جدارين متجاورين، فكونا شكلاً يشبه المثلث مفتوح القاعدة، ساق الحيوانات في الاتجاه الذي أراده الصيادون لها.

لكن هذه لم تكن الأقفاص الحجرية نفسها، وإنما مجرد تصميم إضافي ملحق بها.

ومن الفطرة التي فطرها الله في الغزلان أنها تفر إلى الأماكن العالية حين تتعرض للتهديد، ولهذا السبب حُفرت الكثير من حفر الصيد في خيبر فوق حافة منحدرات شديدة الانحدار. فكانت تفر لصعود المنحدر ولا ترى الحفرة الموجودة على الجانب الآخر إلا بعد فوات الأوان. وفي حالة عدم وجود منحدر، وكانت تُبنى في بعض المصائد جدران حجرية صغيرة لتحجب فتحة الحفرة، فيقفز الحيوان الخائف من فوقها، ليلقى نفس المصير.

وهذا يدل على دراية كبيرة بسلوك الحيوانات، ويعزز الرأي القائل بأن الغزلان قد سيقت إلى مصيرها عمدًا ولم تقع في الحفر من تلقاء نفسها.

تطور المصيدة

وعلاوة على المصائد الصحراوية «التقليدية»، تتميَّز صحراء خيبر أيضًا ببعض المنشآت المماثلة التي تعتبر في أيامنا فريدة من نوعها في المنطقة وقد تنم عن تطور هذه «المصائد الضخمة».

 تُعرف باسم «المصائد المفتوحة» أو «المصائد الأولية»، ويبدو أنها أدت نفس الوظيفة التي أدتها المصائد الصحراوية ولكن بطريقة أقل منها تطورًا.

تحتوي «المصائد المفتوحة» على «ذيول» قصيرة تؤدي إلى حفر القتل مباشرة دون أن تلتقي في القفص الصخري، ولا يبدو أن فتحاتها تتماشى مع اتجاه هجرة القطيع، وتتصف عمومًا بأنها أصغر حجمًا وأبسط تصميمًا.

ومن الصعب أيضًا تحديد موقعها، حتى من الجو، لأن جدرانها الحجرية انهارت وتضررت من العوامل الجوية، مما دفع البعض إلى أن يتكهَّن بأنها سبقت المصائد الصحراوية وتعد مثالاً على كيفية تطورها عبر الزمن.

أسرار المصيدة

لا نعرف سوى القليل عن بناة المصائد الصحراوية في العصر الحجري الحديث، ولكن تشير الدلائل إلى إلمامهم بطبيعة التضاريس وسلوك الحيوانات وامتلاك الموارد والتنظيم اللازمين لإتمام مثل هذا العمل الجبار.

ويعتقد نفرٌ من العلماء أن انتشار المصائد الضخمة يدل على تغير أنماط هجرة آكلات العشب؛ فلما كانت القطعان البرية تفرط في الرعي في أحد المراعي وتنتقل إلى غيره، كان الصيادون يتبعونها وينصبون مصيدة أخرى في طريقها. ولا يمكن في أيامنا التكهن بتأثير ذلك على البيئة على مدى آلاف السنين، ولكن ربما ساهم في انقراض بعض الأنواع محليًا.

ولعلَّ كثرة المصائد من أكبر الأسرار التي تكتنفها.

فيُقال إنها تمثل مرحلة بين صيد الحيوانات وتربيتها؛ أي من الصيد للبقاء على قيد الحياة إلى التربية لعيش حياة مستقرة. ولكن إبان الفترة التي يُعتقد أن مصائد خيبر بُنيت خلالها، كان لدى بُناتها بالفعل حيوانات مستأنسة يتناولون لحومها ويشربون لبنها؛ فلماذا يتكبدون كل هذا العناء لنصب مصائد لاصطياد المزيد منها؟

تذهب إحدى النظريات إلى أن المصائد وفرت المواد الخام اللازمة لتصنيع الأشياء التي لا تؤكل ولا تشرب، كالملابس والأدوات والحُلي، عن طريق محاصرة الحيوانات التي لا يسهل تربيتها. فكان من الممكن استخدام ما في الغزال والأيل والمها البري من عظام وقرون وأوتار وجلود لتصنيع مثل هذه الأشياء.

لعلَّ تربية قطعان هذه الحيوانات لم يكن عملاً عسيرًا، ولذا ربما كان اصطيادها خلال هجرتها هو الحل الوحيد. 
ويذهب بعض علماء الآثار إلى أن المصائد ربما تطورت عبر العصور لتخدم أغراضًا يغلب عليها الطابع الاحتفالي، فلعلها وفرت اللحم اللازم للولائم الخاصة أو صارت مخصصة للصيد الجماعي لإحياء طقوس معينة أو تقوية الروابط الاجتماعية.

إرث المصيدة

كان اكتشاف المصائد الصحراوية من اللحظات الرائدة في تطوير علم الآثار الجوي، إذ تُجرى الكثير من الدراسات الأثرية القيمة في المملكة العربية السعودية وخارجها باستخدام الطائرات الخفيفة والمروحيات والطائرات المسيَّرة وصور الأقمار الصناعية.

وتزيح هذه المنشآت الرائعة الستار عن قصة تحول الصيادين الرحل إلى مجتمعات متطورة ومستقرة تعاونت على تحقيق أهداف مشتركة. ونأمل أن تكشف الدراسات الجارية المزيد عن المصائد وبُناتها والعالم المحاط بالأسرار لهؤلاء المعماريين الأوائل الذين سكنوا الجزيرة العربية قبل فجر التاريخ.

سايمون تالبوت    |   التاريخ:٢٠ أبريل ٢٠٢٣

سايمون تالبوت
سايمون تالبوت كاتب ومذيع وبودكاستر يعرض عشقه للتاريخ والثقافة منذ عام 2007، واسترشد الزوار بكلماته في طائفة من أرقى المتاحف والمعارض والمواقع التاريخية في العالم وسُمع صوته عبر أثير راديو «بي بي سي»، ويعيش في شرق إنجلترا ويعشق الحصون والقلاع.