يعود بنا الجزء الثاني من هذه القصة إلى رحلتي وأنا أسير على درب الرحالة تشارلز داوتي؛ ذاك الرجل الذي استكشف الجزيرة العربية في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، وكتب عنها كتابًا من أكثر الكتب إسهابًا وتفصيلًا في عصره.

انتهينا بالفعل من زيارة تيماء؛ تلك الواحة والبلدة القديمة التي استمتع فيها داوتي بالبساتين الغنَّاء العامرة بأشجار النخيل الباسقة، وأطيب الثمار الطازجة، فضلًا عن كرم الضيافة العربية وشرب القهوة في منازل قبيلة شمَّر المحلية.

ولم يكن يخطر على باله أنه على وشك التعرف على نوع مختلف تمام الاختلاف من الواحات العربية..

في حين وصف البعض كتاب «ترحال في صحراء الجزيرة العربية» بأنه رائعة من روائع السفر والترحال، فلم ينل داوتي نفسه المنزلة التي يستحقها، إذ لم يحسن التصرف مع الناس، لكنه وضع بين أيدينا كتابًا يعطي نظرة ثاقبة عن واقع الحياة في ذلك الوقت.

وبما أنني من مستكشفي العصر الحديث، فإني متلهفة لمعرفة المزيد عنه وعن أسفاره ووصفه لكل ما شاهده.

فهل قدَّم وصفًا صادقًا عن الجزيرة العربية المحببة إلى القلوب التي أعرفها اليوم؟
 

خرج داوتي من تيماء قاصدًا حائل، ومنها إلى خيبر؛ لكنها لم تكن رحلة يسيرة. فالوصول إلى خيبر يتطلب عبور الحرًّة؛ تلك المساحة الشاسعة من الصخور البركانية التي تبدو وكأنها أرض قاحلة، كما يتجاوز ارتفاعها أربعة آلاف قدم (أكثر من 1,200 متر)، ودرجة الحرارة فيها منخفضة؛ وهذه صدمة كبيرة لرجل كان يسير وسط لهيب الصحراء منذ قليل.

ولا شيء أسوأ من ضرب الخيام بعد طول المسير، والأدهى أنه لم يستطع النوم بعد ذلك. آخذ معي في سفري دائمًا زجاجة ماء ساخن، وأقربها من قدمَي حين يكون الجو باردًا، فأشعر بالدفء. 

كما استغرق المشي بين كتل الصخور الحادة وقتًا طويلاً. ومن واقع تجربتي المريرة، أعرف مدى صعوبة ذلك، إذ تحاذر في كل خطوة تخطوها حتى تسلم من أذى حواف الصخور الحادة.

صعد أكثر من خمسة آلاف قدم (1,500 متر)؛ ارتفاعًا صار الطقس عنده مظلمًا موحشًا. وهذا شائع في حرة خيبر مترامية الأطراف حيث يتحول الطقس دون سابق إنذار؛ منطقة لا يغامر الإنسان بعبورها دون أن يمتلك الخبرة أو المعدات المناسبة، ولكن ما أروع اجتيازها حين يستطيع إلى ذلك سبيلاً!

يقول لنا داوتي إنه مرَّ بالجبل الأبيض؛ ذلك البركان المهيب الرابض بجوار أخيه جبل البيضاء؛ بركانان نادران لونهما أبيض ساحر. وهذه واحدة من الأماكن المحببة إلى قلبي، أتخيل شعوره وهو يجتاز هذه المنطقة الفريدة.

فما أجمل تلك المساحة الشاسعة من الحمم البركانية السوداء لجبل القدر وتباينها مع القطع البيضاء المحيطة بجبل البيضاء. وتلك بقعة لا يسهل اجتيازها في العصر الحديث، ولكن لا بدَّ أنها كانت رحلة ملحمية بالنسبة لداوتي. ما أشد إعجابي برحلته بصفة عامة، وما أشد انبهاري بهذا الجزء منها بصفة خاصة.

يصل في النهاية إلى خيبر في سعيه لرؤية آثار اليهود الذين سكنوها منذ مئات السنين. وهي واحدة من الواحات القديمة الأخرى، كانت تُعرف قديمًا باسم «خيبرا»، التي قيل إن نابونيد (آخر ملوك بابل) غزاها في نحو عام 552 قبل الميلاد.

وكانت ذات يوم من الواحات الواقعة على طريق البخور؛ طريق التجارة القديم الذي كان يربط جنوب الجزيرة العربية ببلاد الرافدين والبحر المتوسط وبلاد الشام. وتتكون من مساحة شاسعة من بساتين النخيل في منطقة منخفضة وسط الوديان التي تشكلت بين النتوءات البركانية. تُخزن الأمطار المنهمرة في حرة خيبر في خزاناتها الجوفية الضحلة وتخرج منها في شكل عيون طبيعية تجري وسط وديان خيبر.

ومساحتها أكبر بكثير من مساحة تيماء، وتضاريسها ساحرة، ولذلك سأغتنم الفرصة للاستمتاع باستكشافها؛ فقد نشأت في مزرعة كبيرة بويلز وكنت أقضي ساعات طوال في استكشاف الريف؛ فهذا المكان يناديني. سأسير خلف غريزتي لأستكشف خباياه وأرى الأسرار التي سيبوح بها.

يمر عند دخول قرية بشر بالحصن الأثري المعروفة بحصن القموص على طول مسار ضيق.

لا يعيش أحد بالقرية اليوم، ولكن حين أمر تحت شجرة ساقطة على طول ذلك المسار، أحاول أن أتخيل عدد من سلكوا نفس الدرب من قبل.

الأرض بيضاء في بعض الأماكن، كما لو أن الثلج متساقط بها. فأتساءل عن السبب، وإذا بي أتذكر الملح الذي في تيماء. فتلك البقع البيضاء عبارة عن أماكن يجف فيها الملح الطبيعي على السطح بعد هطول الأمطار الغزيرة.

منظرها بديع، وحين تسير عليها تحدث صوتًا لطيفًا وكأنما صوت خبز يتفتت، ولكن يبدو منها أنها منطقة شديدة الرطوبة. فهذه أرض خصبة صالحة للزراعة؛ إلا أن العيش بها لم يسلم من الصعاب والتحديات. 

أظن أن داوتي كان في حالة من الدهشة والذهول حين يقول: ”ما أغرب وديان خيبر هذه في الجزيرة العربية التي زرع فيها ولا ماء.“ تتكون المنازل من عدة طوابق، وكانت الغرف السفلية مخصصة للأدوات أو الدواب بسبب شدة رطوبتها. وفي الغرف العلوية نوافذ كبيرة مطلة على الشارع وفتحات زخرفية علوية مثلثة الشكل كانت تُستخدم كأرفف وكأماكن للتخزين. وما يدعو للأسف أن الكثير من المباني باتت في حالة سيئة الآن؛ فلم تسلم من نوائب الزمن ولا تقلبات الطقس. وجدران بعض المنازل مبنية من الحجارة، ولكن الكثير منها مبنيٌ من الطين أو الطوب اللَّبِن، وهكذا تبدو الآن وكأنها ذابت.

كانت الواحة مستقرًا للخيابرة؛ هؤلاء الذين كانوا يزرعون بساتين النخيل، بالشراكة مع القبائل المحلية التي كانت تملك الأرض. قضت قبائل البدو الرحل هذه معظم أيام السنة مع دوابها في المراعي الصحراوية، وتنزل إلى خيبر خلال موسم حصاد التمور في الصيف لتحصل على نصيبها من نصف المحصول. وأدى ذلك إلى تضخم عدد سكان خيبر مؤقتًا حتى وصلوا إلى 50 ألف نسمة. وضربوا خيامهم في حرة خيبر يحيطون الواحة، ولم يدخلوا وديان خيبر خوفًا من البعوض والحمى. ووضعوا دوابهم في مرابط متقاربة بلا أسقف من الصخور البازلتية، ولا يزال من الممكن رؤيتها اليوم حول الواحة. وبينما كنت أتجول في هذه المناطق كثيرًا ما تساءلت عن عدد تلك المرابط الصغيرة منخفضة الجدران؛ وأمسيت أعرف الآن. 

كانت حياة الأهالي قائمة حول ثلاثة أسواق، كما لاحظ داوتي أن ”خيبر تضم أناسًا من أمم شتى“ من الأكراد والألبان والأفارقة والعرب، إلى جانب أناس من أمم أخرى تجمعوا فيها عبر العصور. كما كان للجيش العثماني حامية صغيرة في خيبر لحمايتها من غارات البدو الرحل، ولا يوجد سوى مبنىً واحد به أقواس وسقوف عالية يعود إلى تلك الحقبة، وهو مختلف تمام الاختلاف عن سائر المنازل الأخرى، ولا بدَّ أنه كان مبنىً خلابًا في عصره. وكما هي الحال في الكثير من المناطق الرطبة الأخرى، كانت الملاريا، التي يسميها داوتي «حمى الوادي»، واقعًا مريرًا. فحين وصلت الحامية إلى الواحة لأول مرة، قيل لداوتي إن جميع جنودها ماتوا في السنة الأولى. كانت الحياة كلها شقاءً وعناءً للجميع، بل إن الجنود الذين كانوا من أمم شتى حاولوا زيادة دخلهم الضئيل بزراعة الأراضي التي لا يزرعها أحد. وكثيرًا ما وقعت مناوشات مع البدو الرحل، وسقط قتلى من كلا الجانبين.

استمرت الحياة بغض النظر عن التحديات، وعاش هؤلاء الأقوام في وئام وانسجام وأحسنوا جوار بعضهم البعض. ويقول داوتي: ”حين يعلو القمر والشمس فوق الرؤوس، فعلى عباد الله أن يستريحوا من هموم الدنيا.“ كانت النساء يجلسن على أسطح المنازل، ويصنعن أدواتهن من سعف النخيل، وسط الأهازيج التي يرددنها. وحين يرخي الليل سدوله، تبدأ رقصة السيف على أضواء النيران، وافتتن داوتي بالأهازيج التي لم يمل الرجال من التغني بها في رقصهم، على ألحان الزير والمزمار. أعلم أن الزير من الطبول الصغيرة، إذ رأيته مع فرق الفولكلور الشعبية في أرجاء المملكة، لكنني لم أكن أعرف المزمار.

ثم توصلت من خلال البحث إلى أنه أداة من أدوات العزف الشبيهة بالناي، وهو آلة مصرية الأصل، واسمه «الشاوم» أو «الزورنة» في تركيا وأرمينيا. لا توجد أي آثار على أي من ذلك في الواحة اليوم، لكنني أعتقد أن هذا الرقص كان يحدث في السوق الكبير لقرية بِشر. فمساحة هذا السوق أكبر، ويضم دكاكين تحيط بساحة أو سوق مكشوف، فلا شك أنه كان مركز معظم الأنشطة؛ المنطقة الوحيدة التي تناسب مساحتها الواسعة مثل هذا الرقص والعزف. وحين يقف المرء في منتصف السوق اليوم، يشعر أن هذا المكان يحتفظ بقصص كثيرة وأسرار مثيرة لم يبح بها بعد. فليتني أعود بالزمن لحظة لأرى رقصة السيف بعيني؛ العزف بالطبول والمزمار، ذلك الإيقاع الذي أرشد الرجال في رقصهم وحركتهم؛ كل ذلك يأسر الألباب. ولعل الإيقاع هز الأرض والجدران في تلك المساحة الصغيرة. أما ظلال ألسنة النيران المشتعلة، فلعلها كانت تتراقص حول الجدران الطينية، وتصعد وتهبط من زاوية لأخرى. وأحيانًا حين أقف وسط موقع مهجور، حيث تجمَّع الكثير من الناس في قديم الزمان، أشعر وكأنني أغوص في التاريخ. وهذا موقع من تلك المواقع، ولذلك توقفت دقيقة أو دقيقتين، واستمتعت بكل اللحظات التي عاشها الأهالي هنا.

كان يُنظر إلى داوتي بعين الشك والريبة في القرية، كان غريبًا في بلاد غريبة؛ لم يعتادوا هنا على رؤية الكثير من الزوار القادمين من أقصى الأرض، ولذلك أرسل رئيس الجند رسالة إلى رؤسائه في المدينة المنورة يستفتهم فيما يفعل.

فوضعوه رهن الإقامة الجبرية وكان عليه التردد على رئيس الجند مرتين يوميًا، وكان يتمتع بحرية نسبية في ساعات النهار، لكنه كان ينام ليلاً في الغرفة مع أحد الجنود.

بعد أن تردد على الجنود ذات يوم، انطلق إلى حافة حرة الحمم البركانية ”للتأمل بعيدًا والاستمتاع بألوان الجبال البنفسجية والضاربة إلى الحُمرة على مد البصر.

“ بعض الأشياء لا تتغير مع الزمن، وهذا المنظر الأخاذ منها. فكم أعشق ضوء الصباح الباكر فوق خيبر، وآخر أشعة الشمس ساعة الأصيل؛ مزيج فاتن من الألوان الحمراء والبنفسجية.

ولا شيء يعلو على هدوء الطيور وهي تتناجى بطريقة ساحرة، والضوء البديع ينشر أشعته الساحرة فوق الأشجار والحصون.

يصطحبه أحدهم ذات يوم لرؤية النقوش ورسوم الحيوانات على صفحات الصخور.

كانت هذه المنطقة قديمًا مليئة بالوعول والمها بناءً على ما ترويه لنا تلك النقوش الصخرية، وحين أنظر إلى الرسوم المنحوتة على صخور البازلت، أتساءل كم كانت تلك المنطقة واحة غنَّاء لتعيش بها كل تلك الحيوانات.

كما يشير داوتي إلى ”الأقبية الجافة وعائية الشكل في الحرات وتحدها أحجار مرصوفة“ ويقول إنها مقابر؛ وقد صدق ظنه، فهي قبور يُشار إليها الآن باسم «المذيلات الحجرية»؛ تشكل جزءًا من مجموعة المنشئات الحجرية القديمة المتناثرة في هذه البقعة من العالم، وقد بُنيت في العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي.

ويذهب في بعض الأيام للعمل في بستان النخيل، فيستمتع بالخروج من أجواء القرية والقيام بشيء مجزي. فالهواء يمكن أن يصبح خانقًا مع قلة الحركة في الأسفل داخل القرية، ولذلك لا بدَّ أن خروجه إلى البساتين رفع روحه المعنوية. وهذه البساتين الصغيرة هي المنطقة المحببة إلى قلبي في الواحة؛ مكان ينعم بالسكينة والهدوء، باستثناء نداء غريب لأحد الطيور وحركة المياه على طول القناة.

كانت هذه القنوات تخضع لإدارة محكمة، إذ كانت حقوق السقي لكل بستان مسجلة في سجل شيخ القرية: ”مذكور فيه الأيام والساعات التي يأتي فيها صاحب البستان ويسد مجرى الماء بالمسحاة ويأخذه لنفسه، وكانوا يأخذون حصتهم من الماء في النهار بمتابعة الظل على حافة القناة. “

ويقصد داوتي بذلك أنهم كانوا يعرفون الوقت بقياس طول الظل. كما أخبره الأهالي بطريقة ذكية أخرى لحساب الوقت للمساعدة في إدارة المياه؛ إذ كانوا يستخدمون في المدينة المنورة كوبًا معدنيًا به ثقب صغير في الأسفل، ويضعوه على الماء ويظل يمتلئ شيئًا فشيئًا حتى يغرق بعد مرور ساعة. كَم أعشق القصص البسيطة مثل هذه القصة التي تتجلى فيها الأفكار الذكية لتوفير حلول عبقرية.

القنوات اليوم عامرة بأسماك لا تتوقف عن الحركة؛ مثلما كانت حين أقام داوتي في قرية بِشر. وما أجمل وأغرب رؤيتها في قلب هذه الأرض الجافة.

كما يتحدث عن الأصداف البيضاء المستقرة في قاع الماء. رأيت الكثير منها ولكن ليس في المكان التي رآها فيه. وإنما رأيتها في الطين الجاف الذي يكسو الجدران الموجودة بجوار القنوات، إذ كانت تَعلق في حُفنات ملاط الطين التي استخرجها الأهالي من قلب القنوات لتثبيت الطوب اللَّبِن في مكانه.

وهي أصداف صغيرة ولكنها تتألق في ضوء الشمس كأنما هي جواهر تغري العين.

ويحدثنا داوتي عن أصحابه الذين يتوضؤون في عين الصفصافة قبل الصلاة؛ عين جميلة بها الكثير من القنوات التي تتدفق بحرية بالقرب من مسجد الصفصافة، ولذا سارعت بشد الرحال إليها. وبعد يوم حافل بالاستكشاف، فما أمتع التوقف قليلاً لكي تستمتع كل حواسي بجمال الطبيعة؛ أشاهد الأسماك التي تفتني بذيولها الملونة؛ تسحرني الأسماك الكبيرة التي لا تكاد تحرك ساكنًا، وتأسرني الأسماك الصغيرة التي لا تتوقف عن التحرك هنا وهناك. وحان الوقت لشرب القهوة مرة أخرى. فما أسعدني بمشاهدة الأسماك والاستماع إلى أغاريد الطيور وهي تغني أهازيج الغروب والشمس تلقي بألوانها الحمراء المتوهجة الأخيرة فوق السماء والمباني المجاورة.

حين أقود السيارة وأرحل عن خيبر، أفكر في الواحتين اللتين حالفني الحظ لقضاء بعض الوقت بهما واستكشاف خباياهما. لا شك أن تيماء أجمل الواحتين؛ فلا تزال تحتفظ بالكثير من السمات التي يشير إليها داوتي في كتابه، وما أسعدني بالاستماع إلى أحمد وهو يصف المنزل الذي خرج إلى الحياة بين جدرانه. وكنت ألمس الجدران المبنية من الطوب اللَّبِن، وأشعر بحرارة الشمس في كل شيء، فحلق وجداني مع من سكنوها في قديم الزمان. ولا يزال بئرها الرئيسي «بئر هداج» قلب الحياة لأهالي البلدة، وأشجار النخيل الباسقة؛ جنة غنَّاء وسط صحراء جرداء حينًا أو تكسوها الزهور حينًا آخر.

أما خيبر، فهي مكان مختلف تمامًا، سواء من حيث تضاريسها أو تحديات العيش فيها. فالواقع أنها كانت مكانًا تصعب الحياة فيه؛ فبسبب رطوبتها الشديدة، انتشرت فيها الملاريا وحصدت أرواحًا كثيرة، ولم يكد ينجو منها صغيرًا، ولم يسلم منها أقوى الرجال حينًا. والغدر من حولها بسبب المعارك بين الجنود العثمانيين والبدو الرحل. فكانت الحياة منذ أكثر من 150 عامًا مختلفة تمام الاختلاف عما نعرفه اليوم. ولكن لا تزال واحة خيبر تتمتع بجمالها الفريد؛ حيث تترعرع أشجار النخيل في وديان متعرجة أسفل بحر واسع من الحمم البركانية، تتخللها نتوءات صخرية ساحرة، تقف عليها الحصون القديمة. والكثير من القنوات الصغيرة التي تشكل شرايين الحياة وهي تنقل الماء إلى كل مكان في الواحة. وما أمتع النظر إلى الأسماك الخالدة فيها، كبيرها وصغيرها، لا سيما في وسط الصحراء، وإن كانت صحراء بركانية.

يعطينا وصف داوتي نظرة ثاقبة عن واقع الحياة اليومية منذ 150 عامًا. وأمسيت أفهم أكثر وأكثر سبب كل هذا الإعجاب بكتابه بعد نشره، مع أنه يقدم بعض الآراء التي تبدو لقارئ اليوم أنها لا تنصف أولئك الذين حلَّ ضيفًا عليهم. بل إن الرحالة السير ريتشارد برتون الذي جاء من بعده نوَّه إلى أن داوتي لم يحترم دينهم وعاداتهم. ولقد قطعت عدة أميال في جنبات المملكة، ولم أجد من أهلها إلا الترحاب وحسن الاستقبال وكرم الضيافة. لقد شكلت تنشئة داوتي بالتأكيد شخصية مثيرة للاهتمام؛ شخصية أفلتت من الهلاك لتروي لنا تلك القصة البديعة.

وسأختم كلامي وأنا أكن له كل الاحترام والإجلال، فقد وضع بين أيدينا كتابًا يقدم نظرة ثاقبة عن الجزيرة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، وأعطانا جميعًا نافذة على العالم العربي منذ 150 عامًا. ما أروع تيماء وما أجمل خيبر! واحتان عامرتان بالقصص والأسرار التي لم نكتشفها بعد. ولكم أتوق إلى شد الرحال إليهما من جديد...

شيلا راسِل    |   التاريخ:٠١ أبريل ٢٠٢٣

شيلا راسِل
شيلا راسِل واحدة من مستكشفي العصر الحديث، أمضت الخمس سنوات الماضية في توثيق تاريخ المملكة العربية السعودية وثقافتها وتقاليدها وطبيعتها الساحرة من خلال سرد القصص والتصوير الفوتوغرافي. وهي زميلة الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، وظهرت في باقة من المقالات العربية على شبكة «سي إن إن» الإخبارية. تابعوها على إنستغرام @SaudiTravelNotes.