أحببت استكشاف كنوز المملكة العربية السعودية حتى أخذت بمجامع عقلي وتلابيب قلبي، وأجوب أرضها الشاسعة من مشرقها إلى مغربها منذ عدة سنوات، ولا شيء أحب إلى قلبي من البحث عن نقش صخري فريد، أو زيارة مبنىً أثري، أو السير على خُطى مشاهير المستكشفين أمثال توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، أو سانت جون فيلبي (الشيخ فيلبي)، أو افتتاني حاليًا بتشارلز داوتي.
ولربما تسألني قائلاً: ولماذا داوتي؟ وإليك الجواب: جاب داوتي شمال الجزيرة العربية منذ ما يقرب من 150 عامًا وألف عنها كتابًا بعنوان «ترحال في صحراء الجزيرة العربية» يُعتبر من نوادر أدب الرحلات التي سجلت حياة الجزيرة العربية في تلك الحقبة من الزمن، فلا يكاد يوجد كتاب مثله يتناول تلك الحقبة بتفاصيلها، وسأستعين بما كتبه للعودة بالزمن إلى ذلك الفصل من التاريخ.
في حين وصف البعض كتاب «ترحال في صحراء الجزيرة العربية» بأنه رائعة من روائع السفر والترحال، فلم ينل داوتي نفسه المنزلة التي يستحقها، إذ توجد أدلة على أنه لم يحسن التصرف مع الناس، لكنه وضع بين أيدينا كتابًا يعطي نظرة ثاقبة عن واقع الحياة في ذلك الوقت.
وبما أنني من مستكشفي العصر الحديث، فإني متلهفة لمعرفة المزيد عنه وعن أسفاره ووصفه لكل ما شاهده. فهل قدَّم وصفًا صادقًا عن الجزيرة العربية المحببة إلى القلوب التي أعرفها اليوم؟
وهل يمكنني العثور على نفس الأماكن التي يتحدث عنها؟ وهل سأتمكن من غمس يدي في نفس مياه العيون التي انتعش بها منذ ما يقرب من 150 عامًا؟
وُلد داوتي في إنجلترا خلال العصر الفيكتوري في أسرة من رجال الكنيسة، فنشأ نشأة تقليدية وصارمة للغاية، ويبدو أنه لم يكن له أي هدف في الحياة بعد وفاة والديه وعدم قبوله في البحرية بسبب اعتلال صحته. فلم يستقر في مكان، بل أمضى السنوات الأولى من عمره في دراسة مواضيع شتى، ورحل من كامبريدج إلى النرويج، ثم إلى هولندا، ومنها ظل يجوب أوروبا كالبدو الرحل لمدة 4 سنوات، ثم ركب البحر قاصدًا فلسطين، بدون أي سبب واضح وبدون مالٍ يعينه على سفره.
وبينما كان يقصد البتراء، سمع عن الحِجر، التي كان ”الأوروبيون لا يعرفونها“ آنذاك، ووصفها بأنها تضم ”آثارًا منحوتة في الجبال كالبتراء وتزدان بنقوش كثيرة.“ فكانت هذه فرصته ليكون صاحب السبق في توثيقها. والحق أنه زار موقع الحِجر المدرج حاليًا بقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، وأخرج لنا بعد ذلك بعام واحدًا من أوائل الكتب التي وصفت تلك المقابر النبطية البديعة. لكنه لم يتوقف هنا، بل جاب الكثير من المدن الأخرى في شمال الجزيرة العربية.
تبدأ القصة التي أرويها لكم اليوم في قلب الصحراء خارج تيماء، إحدى الواحات المحببة إلى قلبي في الشمال الغربي، حيث شدَّ داوتي الرحال في فبراير 1877. انضموا إليَّ في رحلة إلى الأماكن التي يصفها لنا، وسنحاول معًا أن نربط ما رواه بما نجده اليوم.
يصف لنا المنطقة بأنها تتميَّز بمرتفعات رملية تتكون من أرض مرتفعة وحفر صخرية. نعم، هذه أرض منبسطة ومفتوحة للغاية، ربما تشعرك بأنها تخلو من الحياة، ولا سيما في لهيب الصيف.
ما أسهل الشعور بذلك عند النظر إليها من مسافة بعيدة، ولكن بعد التوقف لإمعان النظر فيها واستكشافها سيرًا على الأقدام بعد هطول المطر، فإذا بهذه الصحراء الجرداء تتحول إلى مشهد يسر الناظرين؛ جِنان من الزهور الممتدة على مساحات متموجة رويدًا رويدًا تتراقص مع نسمات الهواء العليل. لا أريد مغادرة هذه الروضة الصحراوية، لكنني حريصة على بلوغ تيماء.
تذكرنا هذه الصحراء الشاسعة المفتوحة والمسافات الكبيرة بين الواحات بأهمية تلك الواحات قبل اختراع السيارة، فكان التنقل بينها راكبًا أو راجلاً يستغرق أيامًا إن لم يكن أسابيع.
ومنذ آلاف السنين، كانت تيماء واحدة من أهم المحطات المنزوية في الجزء الشمالي من طريق البخور؛ ذلك الطريق التجاري الممتد بين ممالك جنوب الجزيرة العربية وبلاد الرافدين والبحر المتوسط والشام. وكانت القوافل تقطع آلاف الأميال بالنفائس التي تحملها من البخور والتوابل والأقمشة والأحجار الكريمة والصوف.
تأتي أول إشارة مكتوبة إلى تيماء من القرن الثامن قبل الميلاد، وذلك حين تحدث الملك «نينورتا خذرصر»، الحاكم الآشوري لسوحو وبلاد ماري (على طول الفرات الأوسط)، عن هجومه على قافلة قادمة من تيماء وسبأ، إذ وصف تلك الغارة على لوح حجري، يدَّعي فيه أنه أسر 100 رجل وغنمَ 200 ناقة بكل ما تحمل (من الصوف الأزرق الأرجواني والحديد والأحجار الكريمة و ”كل ما يُباع ويُشترى“).
وهذه المسلة (أو اللوح الحجري) محفوظة الآن في متحف العراق ببغداد، وتقف شاهدة على المسافات الهائلة التي قطعها الناس في قديم الزمان. ها أنا أغمض عيني قليلًا، وأكاد أتخيل قافلة طويلة من الإبل تسير ببطء عبر هذه الأرض، تترقب بلوغ واحة تيماء العظيمة.
يمر داوتي ببقايا أطلالٍ قديمة، تدل على أن الناس استوطنوا هذه الأرض لمئات السنين، والمنطقة عامرة اليوم بالكثير من مناطق التنقيب الأثرية التي توسع مكتشفاتها المستمرة مدارك فهمنا لهذا الفصل الزاهر من التاريخ. ويقترب داوتي، ويصف لنا جزيرة من بساتين النخيل العالية، تحيطها جدران طويلة مبنية من اللَّبِن وأبراج محصنة. وحين أدخل الجزء القديم من المدينة اليوم، أجدني ما كنت لأصفها بوصف غير الذي ذكره داوتي.
فالنخل باسقات، ظلها ظليل ونسيمها عليل؛ جنة غنَّاء في استقبال أي مسافر عبر الصحراء. إنها الهدوء والسكينة، ومتعة الشعور براحة الجسد واطمئنان النفس، لاستعادة العافية بعد طول المسير. لقد أسرتني هذه الواحة القديمة بسحرها.
يصف داوتي أغصان أشجار البرقوق في أوج إزهارها قائلاً: ”مسرَّة تفتتن بها عيوننا الظمآنة.“ وهذا هو الأسلوب الذي جرى عليه في سائر كتابه بالإنجليزية، ويصعب علينا فهمه في مواطن كثيرة صراحةً، لكنه يجعل القارئ يمعن التفكير في مراده.
أيمكنك أن تتخيل شعوره بعد كل تلك الأيام التي قضاها وسط تلك الصحراء الجرداء؟
إلا أن البرقوق ليس الفاكهة الوحيدة التي تنمو في تيماء، فيُروى أنها عامرة بالرمان والتين والأُترج والليمون بالإضافة إلى كروم العنب التي تظلل الآبار.
ويعد التمر المحصول الرئيسي ولكن يُضاف إليه القمح والشعير (اللذان يُحصدان في أبريل) والدخن وحبوب نجد (الدقسة).
ويُجلب الملح من طبقات الملح المتراكمة في السبخة، ويقول أهل البادية لداوتي إن ملحها أحلى من ملح مدينة الوج الواقعة على ساحل البحر الأحمر.
المنازل كلها في حالة جيدة، فلا يرى داوتي أي أنقاض، ويقول: ”هذه واحة مزدهرة، لم أرَ قط مثلها في سفري وترحالي.“ ها هي تيماء تأسر داوتي بسحرها، وعليَّ أن أعترف أنها سحرتني أيضًا. أتبادل أطراف الحديث مع أحد أبناء تيماء (وكل من يعرفني يعلم أنني أتحدث مع الجميع)، وأكتشف منه أنه وُلد تحت سقف أحد هذه المنازل.
وكلامه عن أيام الصبا وهو يجري في تلك الممرات الطويلة يعيدني إلى الأيام الخوالي. علت الابتسامة وجهي واستأذنته أن يدلني عليه. فأجابني قائلاً: ”بالطبع، على الرحب والسعة. “ فمشينا وكلنا فرحة وسعادة نسابق الخطى لنعود بالزمن إلى الوراء.
ما أسعدني بالتجول في سوق الناجم مع أحمد!
ما أسعدني بالتجول في سوق الناجم مع أحمد! عاشت أسرته هنا جيلاً من بعد جيل؛ يعود أصلهم إلى قبيلة شمر النجدية الأصلية التي يحكي داوتي عنها.
المنازل بسيطة، جدرانها مبنية من الطوب اللَّبِن، وأسقفها محمولة على عوارض من أشجار الأثل، وهي تُزرع في الواحة لهذا الغرض فحسب، وعلى أعواد الجريد المبسوطة على العوارض أثر الدخان اليومي، ولكنها لا تزال تلمع في ضوء النيران. والضوء والهواء في كل مكان في المنازل، وفي أعلى الجدران فتحات لإخراج الدخان.
والطوابق العلوية عبارة عن شرفات مفتوحة من اللَّبِن محاطة بجدران تعلوها مثلثات مدرَّجة على غرار العمارة النجدية. أخبرني أحمد أنهم كانوا ينامون هنا في الصيف، فيهب عليهم النسيم العليل، وتسترهم هذه الجدران العالية عن جيرانهم.
وفي زاوية هذا الجدار الموجود على السطح نافذة صغيرة كانت تسمح برؤية القادمين إلى الدار. فما كان مني إلا أن تخيلت أحمد وهو طفل صغير، لا يساعده طوله على النظر من تلك النافذة، فيقف على أطراف أصابعه ويشرئب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ليرى شيئًا مما يحدث في الأسفل.
وأفضل مكان يحبه داوتي في المنزل هو مجلس الرجال المعروف باسم «القهوة»، غير أنه يشتكي من أن أجواء المكان ”منفرة وغير محببة للنفس.“ ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم كانوا يعدون القهوة على جذوع النخيل، ودخانها مختلف عن دخان الخشب العادي.
وأنا سعيدة بأنني لا أشم ذلك الدخان، لكنني لن أمل أبدًا من المرور لشرب القهوة! ويستمتع بالجلوس على الحصير المصنوع من سعف النخيل، وسماع القصص التي يرويها زائروه الذين يمرون للتعرف على ذلك الغريب المقيم بمدينتهم. وترتدي النساء أثوابًا زرقاء بأكمام حمراء مطرزة، ويتزينَّ بأساور وخرز يشترينها من حائل، وهي أقرب مدينة كبيرة تشتهر بأسواقها وبضائعها الواردة من بلاد الرافدين.
ويخلعن الثوب داخل منازلهن، ولا يعرضن عن الحديث معه، فيسألنه: ”لماذا أتيت إلى تيماء؟“ يتسلل شيء من الدعابة النادرة إلى رد داوتي حين يجيبهن قائلاً: ”حسبي أن أراكن يا أخواتي.“
كان وجود نصراني في أرض العرب لغزًا محيرًا، ويظن الأهالي أنه جاسوس، ولا يفعل شيئًا لإخفاء هذه الحقيقة، والحق أنه لا يتحلى بالحكمة وحسن التعامل مع البيئة التي يعيش فيها.
فلم يحترموه بسبب هذا الجهل الذي يشوبه الكِبر والغطرسة. بل إن الرحالة السير ريتشارد برتون الذي جاء من بعده أنكر عليه شكواه المستمرة من معاملة الأهالي له، ويرى أنه لم يحترم دينهم وعاداتهم.
ومع ذلك ظل يتبادل أطراف الحديث مع الأهالي ويتعرفون على بعضهم البعض. وتعلو وجهي ابتسامة حين أقرأ كلامه وهو يصف جلساءه إذ تعلو ضحكاتهم حين يخبرهم بأن إنجلترا ليس فيها إبل ولا تمر.
يمكنني أن أتخيل المشهد بسهولة، فقضاء الوقت بشرب القهوة عادة شائعة في هذا الركن من العالم. وأستمتع بهذه العادة المستمرة أيما استمتاع، فوسط لهيب الشمس في ساعة الظهيرة، لا شيء يعلو على الجلوس في الظل والاستئناس بالناس وشرب القهوة والتمر وتبادل أطراف الحديث معهم.
لم تكن تيماء كثيرة الأموال حين زارها، لكنه يقول إنها مدينة لا يجوع فيها أحد، ويُكرم فيها الغريب حين يحل ضيفًا على أهلها.
ويكاد الأهالي يتقايضون كل شيء؛ فمقايضة السلع والخدمات سُنَّة من سنن الحياة هنا. ويأتي قدر يسير من الفضة من قوافل الحج أو أهل البادية الراغبين في شراء التمر، ويكادون يستخدمون كل شيء في دفع الذكاة (الواجبة بعد حصاد التمر) للأمير في حائل (4,000 ريـال سنويًا).
يغادر داوتي المدينة قبل أوان رحيله حين تظهر فجأة فرصة للسفر مع قافلة عربية. هذه سنة الحياة؛ عليه أن يغتنم كل فرصة تلوح له بسبب قلة ماله للإنفاق على تكاليف سفره، فكان عليه الالتزام بخطط الآخرين في السفر.
وفي شهر سبتمبر في وقت لاحق من نفس العام، يعود داوتي إلى تيماء خلال شهر رمضان المبارك.
ويُستقبل في البساتين بتلك ”الجنة التي تسر الناظرين“؛ يقصد منظر الفاكهة الذهبية والأرجوانية. فالزهور التي رآها في الربيع صارت ثمارًا: ليمون وبرقوق.
ما أسعده وهو يتذوق تلك الفاكهة، وكل ثمرة منها وكأنها جوهرة أو دُرَّة، ومن نكد العيش أن الجراد قضى على الأخضر واليابس في المدينة، ولم يسلم منه سوى نصف أشجارها.
وتتعرَّض المدينة لمصيبة أخرى، إذ سقط جزء من بئر هداج العظيمة (أكبر بئر في الجزيرة العربية) فيها. ويعتقد بعض الأهالي أن السبب في ذلك يرجع إلى أن داوتي يدون ملاحظات عنها في كتابه. ولكن لحسن الحظ، يأتي ابن الشيخ ويرافقه إلى المدينة، ويأمن على نفسه في كنفه.
لا تزال بئر هداج مثار إعجاب حتى يومنا هذا، فبها بكرات كثيرة على جوانبها الأربعة تُعرف بالمحاحيل (ومفردها مِحالة)، كانت تسحب المياه عن طريق الإبل. وما عادت الإبل تُستخدم اليوم إلا في المناسبات الخاصة أو خلال الموسم السياحي، ولذلك أتلهف لقراءة ما كتبه داوتي عنها.
تبدأ الإبل في سحب الماء في الساعة الثالثة فجرًا، وتحضر نساء المدينة العلف عند شروق الشمس، ويتكون من أعواد الذرة المرشوشة بالماء، وذلك بعد طحنها تحت أقدام الماشية، مع البطيخ وأي نبات أخضر يمكنهن العثور عليه. ويوضع هذا العلف ذو الرائحة الطيبة في معلف موجود أسفل كل مجرى أو «منحاة» تُسحب عليها الإبل، وهكذا تستطيع الإبل أن تأكل شيئًا في كل مرة تصل فيها إلى المعلف. وبحلول الساعة 9 صباحًا، ومع ارتفاع حرارة الشمس، يفكونها لتشرب (ولكنها لا تشرب كثيرًا لأنها تشرب كل يوم من السُريان، وهي قنوات المياه الجارية).
ثم يسوقونها إلى الساحات لتستلقي وتستريح وتجتر ما أكلت. وينصرف الرجال الذين كانوا يسوقونها (السواني) ليأخذوا قسطًا من الراحة في منازلهم. وحبال السحب المعروفة بالرشاء مصنوعة من ليف النخيل، ومفتولة بقوة، ومغطاة بقماش من القطن حتى لا تؤذي الإبل. وبحلول الساعة 2 ظهرًا، تعود الإبل لسحب الماء حتى الغروب. وهذه الإبل ليست من إبل أهل تيماء، لكنهم يستأجرونها شهريًا من أهل البادية، مقابل 100 صاع من التمر لكل ناقة، أي ما يعادل 5 ريالات. وأستطيع بهذا الوصف أن أتخيل الإبل وهي تسحب حبالاً طويلة مربوطة بقِرَبٍ أو دلاء في طرفها الآخر.
يخرج الماء مع الأصوات المميزة التي تصدرها المحاحيل، وفي نفس الوقت تأكل الإبل شيئًا من العلف، ثم تعود للبئر لنضح الماء مرة أخرى؛ مزيج من المناظر والأصوات والروائح التي تحتفي بها البئر كل يوم.
يصف داوتي البئر بأنه ملتقى الأهالي، ولا يزال كذلك اليوم، إذ يتجمعون في هذا المكان، وتوجد جلبة حقيقية في المطعم الجديد المفتتح مؤخرًا. فلو أن الجدران تستطيع الكلام، فما القصص التي سترويها لنا؟ يُعتقد أن البئر بُنيت خلال الفترة التي أقامها نابونيد (آخر ملوك بابل) في المنطقة في عام 552 قبل الميلاد، وهكذا تحتفي بتاريخ عريق يمتد على مدار 2,500 عام.
ومع شعور داوتي بطول شهر رمضان، فإذا بالمدينة تحتفل بعيد الفطر، ويرتدي الأهالي ثيابهم الجديدة ويتطيبون، ويتزاورون ليعيدوا على بعضهم البعض والفرحة تعلو وجوههم. ولكن لا تدوم هذه الفرحة سوى يومين، فقد نضج التمر وأخذ يتساقط من النخيل ولا بدَّ من حصاده.
ما أجمل زيارة تيماء حين يكون الطقس جافًا، لكن داوتي يعرفها أيضًا حين تهب بها «عاصفة شديدة»، إذ تهتز أشجار النخيل الباسقة بعنف، وتبدو وكأنها ستُقتلع من جذورها. أعرف هذه التجربة التي مرَّ بها داوتي حق المعرفة، لأنني عايشت عاصفة شديدة في آخر مرة زرت فيها تيماء.
فكانت الرياح تهب في دوامات خلال فترة الظهيرة، وتحمل الرمال شيئًا فشيئًا، وحين أرخى الليل سدوله، تساقطت قطرات ضخمة من الأمطار على السيارة بقوة وكانت مصحوبة بأقوى عاصفة رعدية رأيتها في حياتي. فأخرت رحلتنا لكننا لم نُصب بمكروه؛ نجونا بحمد الله! حين تسوء الأحوال الجوية هنا، فإنها تسوء بسرعة قد تكون صادمة. ولكن يصفو الجو سريعًا، والحمد لله، وما تدري إلا وقد عاد الهدوء والسكينة.
وكدأب المستكشف دائمًا، يرحل داوتي من جديد، يحتمي بكثرة المسافرين مع البدو الرحل، ثم يرافق قافلة الحج. ولا بدَّ أنه كان يصارع شعورين متناقضين؛ الحزن على فراق أحبته من أهل تيماء، وشغف التعرف على أشياء جديدة... وما أكثر ما ينتابنا هذا الشعور! وكانت تيماء تنعم برغد العيش نسبيًا، لا يجوع فيها إنسان، ولا تعرف الحُمَّى إليها طريقًا. لكنه لم يكن يعلم أن الواحات الأخرى ما كانت تنعم بمثل حظها.
شيلا راسِل | التاريخ:٠١ أبريل ٢٠٢٣
شيلا راسِل
شيلا راسِل واحدة من مستكشفي العصر الحديث، أمضت الخمس سنوات الماضية في توثيق تاريخ المملكة العربية السعودية وثقافتها وتقاليدها وطبيعتها الساحرة من خلال سرد القصص والتصوير الفوتوغرافي. وهي زميلة الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، وظهرت في باقة من المقالات العربية على شبكة «سي إن إن» الإخبارية. تابعوها على إنستغرام @SaudiTravelNotes.