مشروع تستعرض فيه ميتوشكا ألكوڤا حياة أهالي العلا وذكرياتهم

دعانا محمد إلى مزرعته الشاسعة في قلب الواحة؛ للاحتماء من لهيب الشمس الحارق، ونستظل بظلها الظليل، ونستمتع بنسيمها العليل، فسرنا بصحبة الطيور المغردة، وقضينا فيها بعض الوقت مستمتعين بجمال الواحة والقصص الساحرة، حتى إننا رغبنا أن نجلس فيها فترةً أطول؛ فما أجملها من مأوى، ومهرب من لهيب المدينة.

استقبلنا بحفاوة كبيرة عند دخولنا المزرعة، واصطحبنا إلى الأشجار والشياه المحببة إلى قلبه، وشعوره بالفخر والاعتزاز كان واضحًا عليه عند تجولنا في المزرعة، حيث أشجار النخيل المتراصة في صفوف جميلة، وغصون الحمضيات تتدلى بالثمار التي سيحصدها في غضون أشهر.
 وعند وصولنا إلى شجر «البرتقال»، ابتسم وأخبرنا أنه يعطي زائريه سلة فارغة؛ حتى يتمكنوا من قطف البرتقال بأنفسهم، ليعدّوا العصير الطازج بعد قطف الثمار من الشجرة، فما أجمله في أيام الصيف الملتهبة.
أعلم أنني سأعود إلى هنا مجددًا، وقد اتضح لي أن العلا تتألف من ثلاثة عناصر: الطبيعة الجبلية، وتاريخ البلدة القديمة، والواحة، وهي شريان الحياة ومبعث الهدوء والسكينة في النفس، ولكلٍّ منها أصوات وأشكال وروائح وقصص تختلف عن غيرها.

سألت "محمد" ما إذا كان يستطيع أن يتخيل العلا من دون واحة فيها، فنظر من حوله لوهلة، وأشعة الشمس الساحرة التي تتخلل سعف النخيل تحيط به، وقال إن الإنسان يستطيع أن ينتقل من منزل إلى منزل أكبر، أو حتى إلى مدينة أخرى، لكن المزارع لا يترك أرضه أبدًا. 
وهنا فهمت قيمة الأرض لمن نشؤوا عليها جيلاً بعد جيل، فلا بديل للأرض عند أهالي العلا. 

”عرض ماجد علينا آلتين: العود، والسمسمية يدوية الصنع، وكلاهما صدح بلحنٍ من الزمن الجميل يأسر الألباب في أجواء الواحة، قبل أن تمطرنا السماء بقطرات ناعمة".

تتميَّز الموسيقى بطابعها العالمي وسهولة فهمها، حتى لو عزفها أحد يتحدث بلغة مختلفة.
 أبدى ماجد رغبته في العزف لنا، فلم نجد حاجة إلى طرح أسئلة حول حرفته أو ما يلهمه، ولا داعي لشرح تاريخ الآلة، فكان يعلم أننا سنستمتع بألحانه، فصعد إلى مقعده وبدأ في العزف والغناء بصوت هادئ، ولم يكن يعلم أن الميكروفون مفتوح، ومع أننا لم نتمكن من سماعه من المكان الذي كنا نقف فيه، إلا أنني شعرت كما لو كنت جالسة بجواره حين وضعت سماعات الأذن، فابتسم وأخبرنا أنه كان يمهد للعزف والغناء فحسب، والمفاجأة أنه عزف عزفًا محترفًا.

يعزف ماجد منذ نعومة أظافره، فعلَّم نفسه الألحان التي يعشقها أهالي العلا، وصنع سمسميته من عبوة غاز قديمة وقطع معدنية أخرى.
 والعزف من الطقوس المعتادة في الزواج والاحتفالات مثل العيد، لكنني شعرت أن عزفه لا يقل عن الموجود في أي مناسبة خاصة، فهاهو يعزف لنا في الواحة؛ ولا جمهور سوانا، نحن جميعًا نجلس على مقاعد على مقربة منه، كان يبدو خالي البال، يحدق للأمام، ويتذوق نشوة العزف. 
وبينما كنا نختم المقابلة ونضع معدات التصوير الخاصة بنا في حقائبها، واصل ماجد وصديقه العزف والغناء معًا. 
والعزف بهذه الطريقة مصحوبًا بالأهازيج التراثية، مخصص للحظات مثل التي نعيشها الآن، وسط الأصدقاء واستقبال الضيوف المتلهفين للاستماع. 
والعازف في هذا المجتمع يتمتع بالقدرة على التأثير وتوحيد الجميع، أيًا كانت المناسبة التي اجتمعوا فيها.

ابتسمت أمينة أثناء شرحها لي مدى تأثرها بالأنباط في إبداعاتها من الصلصال، ورأيت كيف دخلت في حالة من التأمل حينما شرعت في العمل به.

تعدُّ مدرسة الديرة واحدة من الأماكن المحببة إلى قلبي في العلا، فبها طاقة إبداعية معينة تشعر بها منذ منذ الوهلة الأولى لدخولها، ففي كل قاعة من قاعاتها حلقة من النساء يتبادلن أطراف الحديث، ويصنعن أعمالاً إبداعية بالخوص أو الفضة أو القماش أو الصلصال.
 وفي هذه الزيارة تعلمت المزيد عن الصلصال، ورأيت بنفسي حجم التأمل اللازم في صناعة الخزف والفخار، فكانت الطاولة الموجودة في نهاية القاعة الواسعة مغطاة بأشياء شتى؛ فهذه تصنع مزهرية، وهذه تصنع فنجانًا، وتلك تصنع إبريقًا شيئًا فشيئًا مع كل لفة من لفات عجلة الفخار. 
وكانت أمينة واحدة من النساء اللواتي يتدربن على تشكيل الصلصال، وعندما رأتني أتجول بشغف وفضول، أرتني فنجانها الذي وضعت في مقدمته شكلاً بديعًا. 
لم يرافقني مترجم هناك، فاكتفيت بالإيماءات لأظهر لها مدى إعجابي بجميل صناعتها، لكنني أريتها أيضًا صورة لي وأنا جالسة خلف عجلة فخار في وطني، وكنت أتمنى أن تفهم من ذلك أنني أشاركها أيضًا شغفها الظاهر.

هل تعلم أن هؤلاء النساء يُحضِّرن الصلصال من جبال العلا، ولديهن أماكن معينة يُحضرن منها المواد التي يحتجن إليها، كما فعلت أسلافهن من قبل، بل أخبرتني أنها تحلم بالصلصال في نومها وتحلم بكل قطعة ستصنعها.
 وجميع الرسوم التي تزين فخارهن مستوحاة من النقوش الموجودة في جنبات العلا. 
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، رأيت بعض النقوش أثناء قيادتنا السيارة، فتوقفنا وقفزنا منها، ووقفت تحت جبل عالٍ، ورأيت نقوشًا لحيوانات بجانب إنسان، فبث ذلك في نفسي شعورًا بالدهشة والعجب؛ فقد صُنعت بأيادي أناس مثل أمينة، ولا تزال النقوش تعيش على صفحات الصخور القديمة، دليلاً حيًّا على حياة أناس عاشوا آلاف السنين، والرسالة التي تركها أسلافنا القدماء هي: "كنت هنا وهذه رحلتي".

وربما يتجدد ذلك في رسالتنا الحديثة: "كنت هنا، وقابلت هؤلاء الناس، وأردت أن أخبركم عنهم.
 

يتميَّز عبدالله بعينين تملؤهما الطيبة، وأسلوب رقيق دمث في الحديث، واتضح أن شاعريته هي السبب في ذلك، وأسمعنا بعض القصائد تحت الشمس، متأملاً نسيم العلا الذي يبعث على الإبداع.

مع أنني لا أتحدث العربية، فإنني أعرف متى يبدأ أحدهم في إخبارنا بقصة أو إلقاء قصيدة؛ إذ يتغير صوته، ويبدو كأنه يغني، وتلمع عيناه، ويرق لسانه مع عذب الكلام. 
ولكم أقدر تسجيل الشعر لأنني أجد أيضًا أن الكلمات المنطوقة بهذا الشكل تتميز بطابع ساحرٍ وفريد.
أخبرنا عبدالله أن جدَّه كان يلقي عليه الشعر في صغره، فكانوا يجلسون جميعًا في حلقة ويستمعون إلى جدِّه؛ وهذه واحدة من أمتع سبل الترويح عن النفس التي عز نظيرها في العصر الحديث. 
وربما من هنا جاء عشقه للشعر، وهو الرغبة في تحويل المشاعر المحسوسة إلى كلمات مسموعة. ولكم تأثرت بوصف عبدالله لطبيعة العلا الإبداعية، وحديثه عن الأماكن السرية حول الجبال التي يستوحي منها أشعاره.

تبلغ عايدة من العمر نحو 70 عامًا، أو هكذا تظن، ويداها مزينتان بخطوط كستنائية جميلة وعميقة. ولا تكتفي بإخبارنا عن فن الحناء في هذه المنطقة، بل تنقش أيدي النساء بالحناء بأكثر الطرق مهارةً وحبًّا.

لم أسمع سوى شائعات عن هطول الأمطار في الصحراء، مثل قصص الكتب التي تتحدث عن الأقطار البعيدة. 
ومع هطول المطر تغير لون السماء، واختفت الصخور البرتقالية خلف الغيوم، وما هي إلا ثوانٍ حتى غرقت الشوارع بالمياه.
وبعد تباطؤ الأمطار ببضع دقائق، خرج الأطفال إلى الشوارع، يقفزون لأعلى ولأسفل في برك المياه، وخرج الأهالي للاستمتاع برائحة الرمال بعد المطر، ونحن توجهنا لمقابلة عايدة.

 قدمت علينا سيدة ضئيلة الجسم في سوق المزارعين، تكتحل عيناها بكحل أسود، وتملؤهما الطيبة والفضول. ولم تتردد حين طلبت منها أن تزين يدَيّ بالحناء، وحين جلست بجانبها، أخذت تنقش يدَيّ بالرسوم التي رسمتها لنفسها.. "خط على مفاصل الأصابع، وخط في منتصف أصابعي، وعلى أطراف أصابعي.. ولاحظت وهي منهمكة بالرسم تلك الخطوط الحمراء العميقة على يديها، وشعرت بأن منزلتي كبيرة لدرجة أن أيدينا الآن محناة بالرسوم ذاتها.

وأوضحَتْ أن الحناء البدوية التقليدية تبدو هكذا؛ إذ تميل أكثر إلى الأشكال الهندسية، على النقيض من أشكال الزهور المعقدة التي اعتدت عليها. 
وقد نشأت في خيمة بدوية، وتعلمت أيضًا كيف تنسج البساط التقليدي. وأوضحت أن العروس تتزين بالحناء قبل الزفاف لتشعر بجمالها، وقد أدركت ذلك على الفور وهي تنقش يدَيّ. كنت أود أن أطرح عليها أسئلة كثيرة، ولكن كان علينا أولاً أن نستتر من المطر الخفيف الذي أخذ يتساقط علينا، وما إن عاودنا الحديث حتى بدأت تضحك بحياء عندما سألتها كم عمرك؟ فأجابت: "لا أعرف كم عمري.. لكن دعينا نقول 70".

دعتنا أم عمر لمشاهدتها عند صناعة خبز الصاج التقليدي، بينما أخبرتنا عن حبها لفصل الشتاء في العلا.

ثمة شعور بالراحة مرتبط بالطعام، وأعتقد أن هذا الشعور لا ينتابك بسبب وجبة الطعام نفسها فحسب، بل بسبب إيماءات مَن يعدُّها لك؛ فبينما كان فريق التصوير يستعد للمقابلة، جلست بجانب أم عمر وشاهدتها تحضر خبز الصاج، فكانت حركاتها سريعة ورشيقة، وكانت تغرف كل مغرفة من العجين في إيماءة تشبه الرقص، وتفردها فوق الصاج الساخن، وكانت عيناها تنظر إليَّ، وترى مدى رغبتي في تذوق كل رغيف تصنعه. وبعد أن صنعت الخبز المثالي في رأيها (مع أنني رأيت كل رغيف صنعته مثاليًّا)، وضعت فيه السمن والعسل وقدمته لي.

فأكلت الخبز، وشعرت بالدفء، وفرحت، وفهمت مرادها حين أخبرتني بحاجة الإنسان إلى الخبز مع كل وجبة. 
وأخبرتنا أن الخبز يُصنع في العادة باستخدام اليدين فقط، لكن أطراف أصابعها لا تحتمل الحرارة مثلما تحملتها جدتها.

وبينما هممنا بالرحيل، قالت إنها تريد أن تسهب في الحديث إلينا حول حبها لشتاء العلا أكثر من صيفها؛ إذ تكتسي الأرض باللون الأخضر في الشتاء أكثر من الصيف، وأرادت أن تخبرنا عن أشياء كثيرة أخرى، وربما لو انتهينا من تناول العشاء معها، لملأت الأمسية بقصص شتى وهي تمزج خبز الصاج بالعسل. فكل شخص من أهالي العلا يعرف قصصًا كثيرة.. 
فيا تُرى ما القصص التي سنتعرف عليها في الغد؟ 

السيرة الذاتية لميتوشكا ألكوڤا


ميتوشكا ألكوڤا مخرجة أفلام وثائقية متخصصة في القصص التي تشكل وجدان الناس، وتعشق تصوير موضوعات الحنين والذكريات واستكشاف آفاق المكان. وصدر آخر مشاريعها بعنوان «صوت العلا»؛ وهو عبارة عن فيلم وثائقي تجريبي يتناول أصوات صحراء العلا وقصص أهلها التي تأسر الألباب.