إرث المدينة الصامتة

أمست مدينة الحِجر القديمة في عام 2008 أول موقع أثري في المملكة العربية السعودية يُدرج بقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، ولا يُدرج بهذه القائمة إلا ”الأماكن التي تتمتع بقيمة عالمية متميزة للبشرية.“

احتفالاً بالذكرى السنوية الخامسة عشرة لتصنيف الحجر ضمن مواقع اليونسكو للتراث العالمي، يستكشف الكاتب والمدون الصوتي «سايمون تالبوت» تاريخ هذا الموقع الاستثنائي ويستعرض أهميته للعالم.

الأنباط من العرب القدماء الذين عاصروا مصر واليونان وروما القديمة، بل ولم يقلوا عنهم في العمارة والفلسفة والابتكار.

لكنهم لم يكادوا يتركوا لنا أي سجلات مكتوبة عن وجودهم، ولا يزال علينا التنقيب عن تفاصيل كثيرة للكشف عن ثقافتهم ومعتقداتهم.

ولكن ما أروع إنجازاتهم التي من بينها:

  • السيطرة على شبكة تجارية واسعة وناجحة.
  • ريادة ابتكار الكتابة العربية.
  • إنتاج عمارة رائعة تضارع عمارة اليونان وروما.
  • إنشاء أنظمة مبتكرة لإدارة المياه تضاهي أنظمة إدارة المياه في العالم القديم.

ومع أن نجمهم أفل منذ أكثر من ألفي عام، فقد خلَّف الأنباط لنا آثارًا تاريخية ساحرة، مثل مدينتي البتراء والحِجر القديمتين.

وتمتاز هاتان المدينتان بمقابر منحوتة في تكوينات شاسعة من الحجر الرملي الضارب إلى اللون البرتقالي تثير الدهشة والعجب في نفس كل من يراها.

والحق أن البتراء، عاصمة الأنباط في الأردن، تعتبر واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة، وذلك بناءً على تصويت أكثر من 100 مليون شخص في عام 2007.

ومع ذلك، فعلى مسيرة 300 ميل إلى الجنوب، وفي المملكة العربية السعودية، تقدم مدينة الحِجر النبطية أيضًا لعلماء الآثار بعض اللمحات المدهشة عن هذا العالم المحاط بالأسرار والغموض.

من هم الأنباط؟

كانت بداية الأنباط كبدو رحل يرعون الأغنام والماعز والإبل في صحراء الجزيرة العربية مترامية الأطراف.

ويُقال أنهم برعوا في العيش في هذه البيئة القاسية، إذ اشتهروا بقدرتهم على اكتشاف المياه ونقلها خلال تنقلهم بين المراعي.

ولا يزال العلماء مختلفين حول أصولهم، فمنهم من يقول أنهم أتوا من جنوب غرب الجزيرة العربية، ومنهم من يقول أنهم نشأوا على طول الساحل الشرقي للجزيرة العربية.

والأنباط عبارة عن حِلف عدة قبائل تجمعها غاية مشتركة، أطلقوا على أنفسهم اسم «النبط»؛ وهي كلمة تظهر كثيرًا في نقوشهم القديمة ويبدو أنها تتعلق بالتحكم في المياه وتخزينها.

وكان أول ظهور مؤكد لهم في السجل التاريخي في مكتبة «ديودور الصقلي» التاريخية؛ وديودور مؤرخ يوناني قديم عاش في القرن الأول قبل الميلاد، فوصف الأنباط بأنهم قوم رحل، لكن المعلومات التي ذكرها كانت تستند إلى روايات تجاوز عمرها قرنين ونصف من الزمان آنذاك.

ولكن إبان الحديث عنهم في كتبه، كانوا قد أصبحوا تجارًا من أهل الثراء والقوة والبأس، لكن روايته القديمة تقدم لنا نبذة نابضة بالحياة عن سبب كل هذا الاحترام والإجلال لهم لكونهم من أهل البادية.

فيقول: ”يعيشون في العراء مستوطنين برية ليس بها أنهار ولا عيون وفيرة يمكن لجيش معادٍ التزود منها بالماء.

ومن عادتهم أنهم لا يزرعون حبوبًا، ولا يغرسون شجرة مثمرة، ولا يشربون الخمر، ولا يبنون بيتًا، ومن يفعل خلاف ذلك، فمصيره الموت.

ويتمسكون بهذه العادة لأنهم يعتقدون أن من يمتلكون هذه الأشياء يُخضعون رقابهم لأصحاب القوة والبأس إذا أرادوا الاحتفاظ بها.

ومنهم من يربي الإبل، ومنهم من يربي الغنم، ويرعاها في الصحراء. وما أكثر القبائل العربية التي ترعى في الصحراء، إلا أن الأنباط يفوقون غيرهم بكثير في الغنى والثراء مع أنهم لا يزيدون عن عشرة آلاف فرد؛ ومرجع ثروتهم أن نفرًا منهم اعتادوا على إحضار بخور اللُّبَان والمُر وأثمن أنواع البهارات إلى البحر.

وهم قوم يحبون الحرية حبًا جمًا؛ وكلما اقتربت منهم قوة طامعة ذات بأس، احتموا بالصحراء وتحصنوا بها؛ لأن الماء نادر بها ولا يستطيع غيرهم عبورها، فهم في مأمن بها لأنهم حفروا خزانات جوفية مبطنة بالجص.

وبما أن الأرض تكون من الطين تارة ومن الحجر اللين تارة أخرى، فإنهم يحفرون خزانات ضخمة هنا، ويجعلون فتحاتها صغيرة جدًا، لكنهم يوسعونها كلما تعمقوا في الحفر، إلى أن يجعلوا كل جانب منها بطول 30 مترًا.

وبعد أن تمتلئ هذه الخزانات بمياه الأمطار، يغلقون الفتحات، ويسوونها بالأرض، ويتركون علامات يعرفونها ولا يعرفها غيرهم.

ويسقون دوابهم كل يومين حتى إذا فروا إلى مكان بلا ماء، فلا تحتاج إلى الشرب باستمرار.

يرجع الفضل في تطور الأنباط من رعاة رُحَّل إلى تجار ذوي قوة وبأس إلى تحكمهم في أقسام حيوية من طريق البخور؛ وهو عبارة عن شبكة من الطرق التجارية المربحة التي كانت تسلكها قوافل ضخمة من الإبل المستأنسة تنقل البضائع من جنوب الجزيرة العربية إلى الشمال.
ومع توسع نفوذهم وكثرة مواردهم، زادت رغبتهم في بناء قاعدة دائمة لهم وتوسيع رقعة أراضيهم.

ويقول ديودور إن هذه الحضارة الآخذة في التطور يومًا تلو الآخر بدأت بحلول عام 312 قبل الميلاد في إنشاء عاصمة لمملكتهم المتنامية في البتراء. وذكر أن أحد خلفاء «الإسكندر الأكبر» شنَّ في ذلك العام حملتين عسكريتين متتاليتين ضد المدينة.

وظلت مملكة الأنباط بعد تأسيسها تتوسع شمالاً حتى وصلت دمشق.

وفي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، بلغت أقصى توسع لها في الجنوب بوصولها إلى مدينة الحِجر.

لماذا اختار الأنباط الحِجر؟

لا تزال الأسباب الدقيقة وراء توسع الأنباط جنوبًا لغزًا محيرًا؛ لأنهم لم يكادوا يتركوا لنا أي سجلات مكتوبة. فيذهب كثير من العلماء إلى أنهم أرادوا السيطرة على التجارة عبر البحر الأحمر وأرادوا إنشاء قاعدة ساحلية وداخلية في آن واحد لتمكينهم من ذلك.

وتشير المصادر القديمة إلى مدينة ساحلية محصنة في الطرف الشمالي للبحر الأحمر، تُسمَّى «لويكي كومه»، كانت تصلها البضائع القادمة من الشرق.

وتُنقل الكثير من هذه البضائع برًا إلى البتراء ومنها إلى ساحل البحر المتوسط، حيث يمكن إرسالها إلى أراضي اليونان وروما الغنية.

فهذا هو الطريق الذي أراد الأنباط أن يخضعوه لسلطانهم.

لا يزال علماء الآثار في العصر الحديث مختلفين حول الموقع الدقيق لميناء لويكي كومه، ولكن لا شك أن هذا المرفأ الحيوي كان تحت سيطرة الأنباط بحلول منتصف القرن الأول قبل الميلاد، وكانوا يجبون ضريبة تبلغ 25٪ على جميع البضائع المارة به.

أما بالنسبة للحِجر، فقد احتلت موقعًا استراتيجيًا على الطريق البري المتجه شمالاً من لويكي كومه إلى البتراء، وهو موقع مثالي للسيطرة على حركة البضائع القادمة من البحر. وكان طريق القوافل القديم المعروف باسم «درب البكرة» يمتد شمالاً من مدينة الحِجر، وعثر علماء الآثار على نقوش تثبت أنه كان طريقًا كثير الاستخدام؛ وقد نحت هذه النقوش نفس الشخص أحيانًا وتفصل بينها عدة أميال.

كما تمتعت الحِجر ببعض المزايا الجيولوجية التي جعلتها مصدرًا مثاليًا للطعام والمأوى للتجار المسافرين؛ ولا شيء بلا مقابل!

ومع أن الحِجر تقع في قلب الصحراء، فإنها تتمتع بوفرة المياه على مدار العام، إذ تقع على سهل رسوبي عند سفح سلسلة جبلية تتكون من صخور بركانية مسامية تُعرف باسم البازلت، بالإضافة إلى صخور أخرى.

ووفرت هذه السلسلة الجبلية شيئًا من الحماية من العوامل الجوية كالرياح القوية والعواصف الرملية، والأهم من ذلك أن مياه الأمطار التي تدفقت من قممها غذت الآبار والوديان التي لا غنى عنها لحياة الإنسان.

العصر الذهبي للحِجر

خلال القرن الأول قبل الميلاد، وإبان انتقال روما من عصر الجمهورية إلى عصر الإمبراطورية، وسع الحارث الرابع، ملك الأنباط، رقعة مملكته لتضم بعض بقاع الجزيرة العربية، ومنها مدينة الحِجر.

كان الحارث الرابع معروفًا بلقب «المحب لشعبه»، وزادت الحجر في عهده ثروةً ومكانةً، وباتت المدينة الثانية للأنباط. وشارك في الحكم مع زوجتيه، إذ توجد صور الملكتين منقوشة على عملات معدنية مكتشفة في الموقع.

كانت الحجر في عهد الأنباط عبارة عن مجموعة من المباني المبنية من الطوب اللَّبِن منتشرة على مساحة 130 فدانًا، وكانت أجزاء من المدينة مكتظة بمنازل تتكون من طابق واحد وأسقف مسطحة، تفصل بينها ممرات ضيقة ومتعرجة داخل أحياء مكتظة.

وكان أشراف الناس يعيشون في مبانٍ أكبر في مناطق غير مكتظة بالمنازل، ويمكن الوصول إليها عن طريق الأزقة الصغيرة. واكتشف علماء الآثار بقايا حجارة رصف مزخرفة إن دلت على شيء فإنما تدل على جمال تلك المدينة وبهائها.

وربما استُخدمت المساحات المفتوحة الواسعة المنتشرة في جنبات المدينة كميادين أو أسواق أو بساتين عامة.

وكانت محاطة بسور دفاعي بطول ثلاثة كيلومترات وبه عدة بوابات؛ كان أحدها بابًا ضخمًا مزخرفًا ومحاطًا ببرجين متماثلين.

وكان مجرى نهر موسمي جاف أو «الوادي» يفصل أهالي الحجر عن الواحة الغنَّاء، وكانوا يحصلون على المياه من 130 بئرًا، كما سقت هذه الآبار البساتين التي وفرت لهم الطعام والخشب اللازم للبناء.

وكان في وسط المدينة معبدٌ مثير للإعجاب، منحوت في كتلة من الحجر الرملي الصلب، ويعلوه هيكلٌ مبنيٌ حول أربعة أعمدة بيضاء.

وتشير النقوش القريبة من المعبد إلى إله يُدعى «إله شمايا»؛ أي «إله السماء». ولعلَّ هذا الإله كان لا يُعبد إلا في الحِجر لأنه لم يُعثر على هذا الاسم في أي مكان آخر في مملكة الأنباط.

عاش الأهالي على الحبوب والشعير والبقوليات والتمر، كما كانوا يأكلون لحم الأغنام والماعز والإبل والأسماك.
وعُثر على قطع كثيرة من قشر بيض النعام، ولا ضير إذا افترضنا أنهم كانوا يشربون لبن الماعز.

وهنالك مؤرخ يوناني آخر يُدعى «سترابو» كان يكتب في مطلع القرن الأول الميلادي، فرسم صورة نابضة بالحياة عن ثقافة الأنباط المتطورة آنذاك.

فيقول: ”الأنباط قوم ذوو رأي وحكمة، يحبون اكتناز الأشياء ويجرِّسون من يبددها ويكرِّمون من ينميها.
وعبيدهم وإماؤهم قليلون، ولذلك يخدمهم أهلهم في الغالب، أو يخدمون بعضهم البعض، أو يخدمون أنفسهم، حتى سرت تلك العادة إلى ملوكهم.

ويقيمون ولائم مشتركة في جماعات من ثلاثة عشر فردًا؛ وتطربهم مغنيتان في كل وليمة.
ويقيم الملك الكثير من مجالس الشرب الفاخرة، ولكن لا أحد يشرب أكثر من إحدى عشرة كأسًا، وفي كل مرة يستخدم كأسًا ذهبية مختلفة.

والملك شديد التواضع، فهو يصب لنفسه، بل ويصب لغيره أحيانًا حين يحين دوره.

ويعبدون الشمس ويبنون مذبحًا على سطح البيت ويريقون الخمر عليه كل يوم ويشعلون اللُّبَان.
ويخرجون دون ثوب طويل، ويضعون حزامًا حول وسطهم، ويلبسون نعالاً في أقدامهم؛ حتى الملوك، غير أن اللون في حالتهم أرجواني.“


يتسم أسلوب سترابو بطيب الحديث عن تنظيم المجتمع النبطي وحسن إدارته، فكانت لبعض المسؤولين ألقاب مثل «الحاكم» و«القائد»، وقد عُثر على هذه الألقاب في بعض نقوش المقابر في الحِجر، مؤكدة صدق ما لاحظه.

 كما اكتشف علماء الآثار أدلة أخرى على تطور المجتمع النبطي في الحِجر في شكل جلود قديمة كانت مستخدمة في صنع النعال، وأواني شرب فخارية، وقطعة محفوظة من القماش عليها صورة رجل.


كما عثروا على أدوات منزلية كالأمشاط والإبر والصناديق الخشبية والحُلي مثل الخرز الزجاجي والأساور والخواتم؛ وكل اكتشاف جديد يوسع مدارك فهمنا للأنباط وعالمهم.

وتكشف بعض المكتشفات دور الحِجر التي كانت واحدة من حواضر التجارة الدولية.

واكتشف علماء الآثار جِرارًا من المرمر ربما جاءت من جنوب الجزيرة العربية، وأوانيَ زجاجية من مصر وبلاد الرافدين، وفخارًا مزجَّجًا من البحر المتوسط، وصدفًا من ساحل البحر الأحمر.

أصوات الموتى

عثر علماء الآثار على الكثير من أجمل المكتشفات الأثرية التي تحتفي بها الحِجر في أكثر من 100 مقبرة ضخمة؛ وهي مقابر منحوتة في نتوءات الحجر الرملي المحيطة بالمدينة.

وهي منتشرة على مساحة تتجاوز ثلاثة عشر كيلومترًا وتحتل موقعًا متميزًا يطل على المدينة.

وتعتبر خير مثال على العمارة الجنائزية القديمة، من حيث إنها غير مبنية في ثلاثة أبعاد (كالأهرامات التي يمكنك السير في كل مكان حولها)، ولكنها منحوتة في الواجهة الصخرية فصارت مبنىً ثنائي الأبعاد.

 وما يزيد تفردها هو تلك العناصر التي تنتمي إلى ثقافات أخرى كان الأنباط يحتكون بها، ويمكن رؤيتها محفورة على واجهاتهم.

فبها أعمدة يونانية، وقوصرات رومانية، وتماثيل لأبي الهول المصري، ونقوش لعلها تمثل الإله «خُنْباب» (بالسومرية: خومبابا) وهو من آلهة بلاد الرافدين؛ وكل ذلك بجانب صور منحوتة للحياة البرية كالأسود والأفاعي، أو الزخارف الاحتفالية كالورود والمزهريات.

وضمت المقابر أجيالاً كثيرة من أهالي الحِجر، إذ تحتوي على رفات مجتمعات وعائلات دُفنت على مدى سنوات طوال.
ولكن تبقى النقوش المنحوتة على جدرانها أكبر مصدر للأدلة المتوفرة لدينا، وتظل واحدة من أبرز الاختلافات الكثيرة بين الحِجر والبتراء.

فهنا الكثير من الأمثلة على نقوش المقابر النبطية النادرة؛ أكثر بكثير من النقوش المكتشفة في أي مكان آخر في مملكة الأنباط.

وفي حين أن أصحاب معظم المقابر الشهيرة في البتراء غير معروفين، فإن علماء الآثار الذين يدرسون مقابر الحِجر يعرفون الكثير عن هويات الموتى الأنباط.


فمن بين 400 نموذج للنصوص القديمة المكتشفة في الموقع حتى الآن، عُثر على 38 منها إما على واجهة مقبرة أو داخل حجرة الدفن.

تتنوع المعلومات الأساسية المذكورة في نقوش المقابر؛ فتذكر اسم صاحب المقبرة ومهنته في الغالب، وكذلك أسماء أهله وأحيانًا حتى اسم نحَّات المقبرة. ومن أمثلة المهن المسجلة هنا ضباط بالجيش وحكام وطبيب ومنجِّم.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض أصحاب المقابر المذكورين كانوا نساءً، وإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدل على أن المرأة الثرية على الأقل في المجتمع النبطي كان لها الحق القانوني في امتلاك مقبرتها ونقل الحق في استخدامها لأبنائها وأحفادها.

تخبرنا بعض النقوش عن أصحاب الحق في استخدام المقبرة في المستقبل وتذكر المحظورات المنهي عنها، كاستخدامها في دفن مَن لا يحق لهم الدفن بها، أو إزالة أي من الجثامين، أو بيعها لأحد.

تخبرنا بعض النقوش عن أصحاب الحق في استخدام المقبرة في المستقبل وتذكر المحظورات المنهي عنها، كاستخدامها في دفن مَن لا يحق لهم الدفن بها، أو إزالة أي من الجثامين، أو بيعها لأحد.
ودفع من خالفوا ذلك غرامة كبيرة، وذهب المال إما إلى الملك أو دار العبادة، أو إلى كاهن أو حاكم المدينة أحيانًا.

وأمَّا من لم يبالوا بالقانون، فقد حذرت بعض النصوص من الأهوال التي يمكن أن تصيب من يزعجون الموتى. فالنص التالي منحوت داخل مقبرة عائلية، بالقرب من مكان دفن امرأة تُدعى «وشوح»:

”فلتحل لعنة ذو الشرى وإله سيدنا والآلهة أجمعين على كل من يُخرج وشوح هذه من مرقدها.

ولتشهد لعنة ذو الشرى والآلهة أجمعين على ذلك.“

تتميَّز الحِجر بمناخ قاحل حافظ على ما بقي في المقابر بعد ألفي عام وما نجا بها من أيدي آلاف اللصوص، إذ عثر علماء الآثار على عظام وشعر وجلد بشري في بعضها.

كما اكتشفوا بقايا مثيرة للأشياء التي دُفنت مع الموتى، مثل خشب التوابيت، وقماش وجلود الأكفان، وقطع فخارية لجِرار القرابين. 

كما عثروا على قطع من الحُلي، مثل قلادة من حبات التمر المثبتة بخيط من سعف النخيل، وتشير المسافات الموجودة بين كل تمرة من التمور التي جفت إلى أنها ربما كانت لا تزال طازجة حين وُضعت القلادة حول عنق الميت.

وكشف التحليل الكيميائي للبقايا المكتشفة في المقابر أن الأنباط غلفوا موتاهم بخليط من الدهون والقلفونة والصمغ النباتي قبل دفنهم لإبطاء عملية التحلل.

لكننا ما زلنا لا نعلم شيئًا عن معتقداتهم عن الحياة الآخرة، فلا يكاد يوجد دليل مكتوب، ولا يزال علينا اكتشاف الكثير عن معتقدات الأنباط.

ملتقى الأخوة

على مقربة من شمال شرق مقابر الحِجر، توجد منطقة تُعرف باسم «جبل إثلب»، عامرة ببعض الأدلة المحيرة إذ يبدو أنها كانت موقعًا مهمًا لمن كانوا يؤمنون بالمعتقدات النبطية.

فبها مشكاوات كثيرة محفورة في الصخر، ربما كانت تحتوي على أشياء شعائرية صغيرة على شكل ألواح حجرية مستطيلة تسمى «بيتيل».

وكلمة «بيتيل» مشتقة من كلمة «بيت إيل» الآرامية، وتعني «بيت الله»، وكان يُعتقد أن أرواح الآلهة تسكن تلك الأحجار التي كانوا ينصبونها لها. 

وفي الحِجر أمثلة على أسلوب نبطي خاص للنحت يُعرف باسم «آي بيتيل» لأنها ليست ألواحًا حجرية عديمة الملامح، وإنما تحمل صورة مبسطة لوجه محفور على سطحها.

إلا أن منطقة «جبل إثلب» تشتهر على الأرجح بالمجلس المنحوت في الصخر والمعروفة باسم «الديوان».

ويمكن الوصول إليه عبر ممر ضيق يبلغ طوله أربعين مترًا بين صخرتين مرتفعتين؛ يذكّرنا بطريق «السيق» الذي يمكن من خلاله الاستمتاع بأحد أروع مناظر البتراء.

كان «الديوان» المكان المخصص لشعيرة مهمة من شعائر الدين النبطي، إذ كانت تلتقي فيه جماعات من الإخوان في الدين، فيحتفلون ويقيمون الولائم.

وبناءً على الروايات المعاصرة، يُعتقد أنهم كانوا يجتمعون في جماعات لا تزيد على اثني عشر فردًا ويأكلون وهم متكئون على أرائك كما كان الرومان يفعلون. وذكر سترابو أنهم كانوا يشربون الخمر (ولكن ليس أكثر من أحد عشر كأسًا) في أجواء من الطرب.

ويُظهر تمثال فخاري مكتشف في البتراء ثلاث عازفات يعزفن على القيثارة وآلة وترية ومزمار، وربما تأثر هذا النشاط المفعم بالبهجة والأنس بالاحتكاك بالحضارتين اليونانية الرومانية.

نهاية عصر الأنباط

تعايش الأنباط مع الإمبراطورية الرومانية لمئات السنين، تربطهم بها علاقة الشراكة مع استقلالهم عنها، فكانوا يمدون الرومان بالجنود بين الحين والآخر، وكانوا لا يخالفون مشاريعهم الإمبريالية.

إلا أن الإمبراطور الروماني تراجان ضمَّ الجزيرة العربية في عام 106 ميلاديًا، ومعها مملكة الأنباط، وجعلها جزءًا من «المقاطعة العربية» الجديدة التابعة لروما.

وأمست الحِجر مركزًا حضريًا مأهولاً بالسكان تابعًا للإمبراطورية، وباتت ركنًا من حدود روما الصحراوية: أو الليمس العربي.

بيد أن التغير الذي طرأ على وضع المدينة لم يؤثر عليها ظاهريًا. فبصرف النظر عن تخصيص معبدها الواقع في قلبها لعبادة الإله «جوبيتر الدمشقي»، فقد بقيت الحِجر كما كانت.

فعلى النقيض من بعض الأراضي الرومانية التي أمست صورة مطابقة لبعضها البعض، احتفظت الحجر بهويتها؛ فلم يُقام بها منتدىً روماني أو مسارح عامة أو طرق معبَّدة. وكان يحكمها حاكمًا نبطيًا في عام 175 بعيد الميلاد، واسمه عمرو بن حيان، وهذا يدل على أن أهلها ظلوا أولي الأمر والنهي فيها.

وكانت أهم إضافة شهدتها المدينة هي بناء حصن عسكري كبير على طول سورها الجنوبي.

وكانت الحجر أبعد نقطة تابعة للإمبراطورية الرومانية جنوبًا، وكان لا بدَّ من وجود قوة عسكرية قوية بها للحفاظ على أمنها وحسن تنظيمها، ولجباية الضرائب من المارين بها.

عُرف الجنود الذين تمركزوا هنا باسم «المرابطين» وتمثلت مهمتهم في القيام بدوريات على الطرق المجاورة والتحقق من وثائق القادمين إلى المدينة. وعثر علماء الآثار على أدلة على وجودهم في شكل عملات معدنية، وقطع من الدروع، وألجمة خيول، ومشبك ملابس يُسمَّى «فِبيولا».

وشأن الكثير من المواقع الرومانية، ترك سكانها أيضًا نقوشًا على الجدران. فكان مسؤول عسكري يُقال له «غلوريوسوس» فرحًا بنجاته من الصحراء وبلوغ هذه المقاطعة النائية لدرجة أنه كتب رسالة شكر على بابها الرئيس يحمد فيها: ”الآلهة الخالدة، وقادة الإمبراطورية، ومهندسي المستشفى، والحظ الذي يعيدك، والإله مارس الحامي.“

ويوجد لوح، مكتوب باللغة اللاتينية أيضًا، يخلد ذكرى أعمال الإصلاح التي أُجريت على سور أو معبد (لم يتفق العلماء على أيهما المقصود) ونصه:

”على شرف الإمبراطور قيصر ماركوس أوريليوس أنطونينوس أوغسطس، أعظم فاتح لبلاد الأرمن والبارثيين والميديين والألمان والسارماتيين، قامت مدينة أهل الحِجر على نفقتها الخاصة بترميم [السور أو المعبد] الذي تهدَّم في عهد يوليوس فرمانوس، مندوب الإمبراطور أوغسطس.

وقام بهذه الأعمال بومبونيوس فيكتور، أمير الفيلق القيرواني الثالث، وزميله نوميسيوس كليمنس، وتولى عمرو بن حيان، أمير مدينتهم، مسؤولية البناء.“

استنتج المؤرخون أن اللوح مكتوب بين عامي 175 و177 ميلاديًا لأنه يشير إلى الإمبراطور ماركوس أوريليوس باعتباره الفاتح لبلاد السامريين ولا يشير إلى ابنه كومودوس.

كما يكشف أن الفيلق الروماني ربما يكون قد نفذ الإصلاحات، ولكن على نفقة أهالي الحِجر بناءً على تعليمات «أميرهم». 

يبدو أن العلاقة بين روما والحجر كانت تتسم بحالة من الوئام والانسجام، ولكن أخذت ثروات الحضارتين تنضب خلال القرون التالية.

فيعتقد العلماء أن الحِجر لم يعد بها وجود عسكري روماني بحلول القرن الرابع الميلادي. وتلاشت أهميتها التجارية وقوتها المالية شيئًا فشيئًا بسبب تغيير طرق التجارة، ربما نتيجة ضمها لحكم الرومان.

 ومع نقص الموارد الكافية، تعرَّضت المباني المبنية من الطوب اللَّبِن للإهمال، وتهدَّمت المباني المبنية من الحجارة الواحد تلو الآخر لإعادة استخدام أحجارها. 

وفي البتراء وخارجها، أخذت حضارة الأنباط تتدهور جرَّاء الحكم الروماني والانهيار التجاري وسلسلة من الزلازل المدمرة. وبحلول القرن السابع الميلادي، اختفت الثقافة النبطية التي أبهرت الجميع في يوم من الأيام، وهجر الناس الحِجر رويدًا رويدًا، وذهبت في طي النسيان.
حتى الآن.

هدية للبشرية جمعاء

لا يقتصر تصنيف الحجر في قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي على التأكيد على أهميتها التاريخية؛ وإنما يعد اعترافًا بأياديها البيضاء على الإنسانية.
فهي موقع يخاطب وجداننا جميعًا ولا يزال يثير في نفوسنا الدهشة والحيرة وعجائب الاكتشاف.

وقد نجح العلماء في عام 2022 في إعادة بناء ملامح هيكل عظمي مكتشف في إحدى مقابر الحِجر الصخرية، وحين ننظر إلى ذلك الوجه، فإننا إنما ننظر إلى ملامح تاريخنا المشترك.

وسُميت صاحبة الهيكل «هِنات» تكريمًا لصاحبة المقبرة وتيمنًا بها، كما يقول النقش التالي المنحوت فوق المدخل:

”هذه هي المقبرة التي بنتها هِنات بنت وهبو لنفسها ولأبنائها وذريتها إلى الأبد، ولا يحق لأحد أن يبيعها أو يرهنها أو يؤجرها، ومن يفعل غير ذلك، يذهب نصيبه إلى وريثه الشرعي. في السنة الحادية والعشرين من عهد «مالك الأول» ملك الأنباط.“

كُتب النقش في عام 60 أو 61 ميلاديًا تقريبًا، ولكن لعلَّ المرأة المعروفة باسم «هِنات» قد دُفنت بعد ذلك التاريخ.
وأيًا كانت هويتها، فقد أمست نقطة حيوية للتواصل الإنساني بيننا وبين الماضي.
تتشابه النضالات والانتصارات اليومية لأهالي الحِجر قديمًا مع حياة ملايين الناس حديثًا. وحين نقابل هِنات ونزيح الستار عن قصة هذه المدينة المخفية منذ قديم الزمان، فإنما نزيح الستار عن قصتنا نحن.

ومن القواسم المشتركة بين مواقع اليونسكو للتراث العالمي أنها تكشف طبيعة الإنسان، فقد كانت الحِجر أرضًا وعرة بيئتها قاسية، لكنها تحولت إلى حاضرة ثقافية وتجارية مزدهرة بفضل شجاعة أهلها وابتكارهم وتعاونهم واجتماعهم؛ كل العناصر التي تميزنا عن غيرنا من الخلائق.
والحِجر ليست هدية الأنباط الوحيدة للعالم.

فقد أخذوا كتابتهم من لغة قديمة في الشرق الأدنى تسمى الآرامية، وظلوا يتفردون بهذه الكتابة ويفاخرون بها لدرجة أن العرب بحلول القرن الرابع الميلادي استخدموا حروفها لتدوين لغتهم المنطوقة.

وتطورت بمرور الوقت حتى أصبحت الكتابة العربية الحديثة التي نعرفها اليوم.
وبفضل الأنباط، الذين نقشوا الكثير من لغتهم على آثار الحِجر، استفاد العالم من ألفي عام من الأدب والتصنيف العربي. زار الرحالة العربي الأسطوري ابن بطوطة الحِجر في القرن الرابع عشر الميلادي، فوجدها مهجورة لكنها لا تزال على حالتها، فكتب يقول:

”وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة، لها عتب منقوشة، يظن رائيها أنها حديثة الصنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت. “

وبدون الكتابة العربية المستوحاة من الأنباط، ربما ما كانت كلمات ابن بطوطة لتصل إلينا، ولكان 6.5٪ من سكان العالم يتواصلون مع بعضهم بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عن طريقتهم اليوم.

ولكن لم تنتهِ قصة الحجر بعد؛ فلا يزال علماء الآثار والمؤرخون وفرق من المتخصصين من شتى بقاع العالم يميطون اللثام عن المزيد والمزيد عن ماضيها الرائع.

وتعتبر المدينة، ولا سيما مقابرها، أرشيفات حية، تقدم للزوار السعوديين نافذة حية على تراثهم الوطني وعلى سائر العالم، وتلهمهم للسعي الدائم في طلب العلم والمعرفة.

تدرك اليونسكو أن الحِجر تمثل فصلاً مميزًا في التاريخ المشترك للبشرية الذي يربط الناس عبر العصور، وفي شتى بقاع العالم، وتدرك أن التقليب في صفحات الماضي يفتح لنا دروبًا مفيدة لتشكيل مستقبلنا.

ذكرى سعيدة بالانضمام لقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي!

سيمون تالبوت    |   التاريخ:١٧ أبريل ٢٠٢٣

سيمون تالبوت
سايمون تالبوت كاتب ومذيع وبودكاستر يعرض عشقه للتاريخ والثقافة منذ عام 2007، واسترشد الزوار بكلماته في طائفة من أرقى المتاحف والمعارض والمواقع التاريخية في العالم وسُمع صوته عبر أثير راديو «بي بي سي»، ويعيش في شرق إنجلترا ويعشق الحصون والقلاع.

قد يعجبك أيضًا

عرض الكل