ما الذي يفعله مذبح لأحد آلهة الشمس العربية منذ ألفي عام في إيطاليا؟ ولماذا يُعثر على عملة معدنية عليها صورة الملكة كليوباترا الأسطورية في العلا بالمملكة العربية السعودية؟ وما علاقة كل ذلك بالروائح؟

العلاقة كبيرة في الحقيقة. من الواضح أن أبسط إجابة (وهي الإجابة الصحيحة) أن الناس هم الذين أخذوا مذبح إله الشمس والعملات المعدنية إلى حيث وُجِدت. ولكن لماذا كانوا يقطعون كل تلك المسافة منذ ألفي عام؟

بدأت القصة باللُّبَان؛ البخور التي يحرقه البعض منا لتفوح منازلنا برائحة طيبة.

وترتبط الرائحة بالطقوس الدينية عند الآخرين بسبب استخدامه في معظم الديانات التوحيدية فضلاً عن الهندوسية والبوذية. وحين تُقام الشعائر والطقوس، يشعر أتباع بعض الأديان أن الدخان المتصاعد عبارة عن قربان يتقربون به إلى آلهتهم أو من المفترض أن يصل إليها. رائحة طيبة تجمع بين روائح الثمار والأرض والخشب؛ ما أطيبها وما أزكاها!

ما المقصود باللُّبَان؟

اللُّبَان نبات من فصيلة البخوريات. وجاء في معاجم اللغة العربية أن البخور: ما يُتبخَّر به من عُود ونحوِه، ويُعطي رائحةً طيبةً عند إحراقِهِ. ويمكن أن تُضاف إليه مكونات أخرى، مثل التوابل والخشب والمُر ومجموعة من الأشياء الأخرى، وكل ذلك يختلف باختلاف الأماكن والاستخدامات في شتى بقاع العالم.

دعونا نعود إلى اللُّبَان «الأصلي» أولاً؛ فهنا بدأت قصتنا عن المذبح والعملات المعدنية.

فليس اللُّبَان (مثل المُر) في الحقيقة سوى عصارة جافة تخرج من شجرة معينة، لكنها ليست شجرة كسائر الأشجار؛ فهو مادة صمغية جافة تخرج من شجرة
اسمها «اللُّبَان» أو «البوسويليا» تنمو في إفريقيا والجزيرة العربية وآسيا. وحين تُقطع الشجرة، تخرج العصارة منها، وتجف حتى تصبح مادة صمغية صلبة.

وظل اللُّبَان على مدار أكثر من ثلاثة آلاف عام يُستخدم في الطقوس الدينية والجنائزية، وفي العطور والطب الشعبي وغيرها الكثير والكثير، بفضل احتوائه على مواد مضادة للالتهابات. ولا زال يحظى بشعبية كبيرة في شتى بقاع العالم حتى يومنا هذا. وكانت الشجرة التي تنمو في جنوب الجزيرة العربية، واسمها شجرة «اللُّبَان المقدس» أو «البوسويليا المقدسة»، نادرة نسبيًا وبالتالي كانت أغلى من سائر الأنواع الأخرى.

كان اللُّبَان من المواد المستحبة التي اشتد الطلب عليها في العالم القديم؛ سلعة ثمينة وبالتالي باهظة الثمن. فكانت تُحرق للتمتع برائحتها الطيبة، وتُستخدم في الزينة والدواء، وفي العطور لأشراف الناس.

وبات امتلاك اللُّبَان واستخدامه رمزًا من رموز الجاه والسلطان، وسحر ألباب طائفة من قادة العالم القديم: الإسكندر الأكبر، والإمبراطور الروماني نيرون، وأقوى ملكات الفراعنة في التاريخ المصري: حتشبسوت.

بلاد البنط

يدخل اللُّبَان في عملية التحنيط أيضًا، ولذا ربما لا تتفاجأ بارتفاع الطلب عليه في مصر القديمة، والدليل على ذلك أن الملكة حتشبسوت اشتهرت بإرسال رحلة استكشافية ضخمة بسفن كثيرة إلى بلاد البنط؛ ولا يزال العلماء مختلفين على عدد تلك السفن بالضبط.

ونجحت الرحلة في إحضار أشجار المُر الحية (والمُر مادة صمغية أيضًا) واللُّبَان (الذي كانت تطحنه لصنع الكحل) والذهب والكثير من أسباب الترف الأخرى.

وتفاصيل هذه الرحلة مسجلة في نقوش معبد حتشبسوت الجنائزي بالأقصر.

اختلف المؤرخون حول مكان بلاد البنط؛ فمنهم من يرى أنها كانت في الصومال أو في مكان آخر في القرن الإفريقي [إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال]، والبعض يجزم أنها كانت في الجزيرة العربية.

وأيًا ما كان المكان الذي أرسلت إليه تلك الملكة المشهورة حملتها الاستكشافية لإحضار أشجار المُر واللُّبَان إليها؛ فقد ترعرعت تلك الشجرتان في جنوب الجزيرة العربية آنذاك.

وفي كلتا الحالتين، شاع استخدام اللُّبَان والمُر في ربوع الجزيرة العربية أمدًا طويلاً، ووصل إلى الكثير من الشعوب الموجودة خارجها رويدًا رويدًا، فعرفه الناس وأحبوه ورغبوا في المزيد منه.

وإبان تلك الفترة، خرجت مملكة صغيرة في جنوب الجزيرة العربية إلى النور، وهي «مملكة معين»، واستغل أهلها معرفتهم بقانون العرض والطلب وتمتعهم بروح المبادرة التجارية من خلال إنشاء طريق يربط المراكز التجارية الموجودة في الشمال؛ فكان طريق البخور. وسار الطريق إلى غزة ومصر وبلاد الرافدين وبابل، ذهابًا وإيابًا.

​​​​​​​فما علاقة كل هذا إذًا بالمذبح الغامض المكتشف في إيطاليا، أو العملات المعدنية المكتشفة في المملكة؟

كان لأهالي مملكة معين (المعينيون) دور رائد إذًا فيما بات يُعرف باسم «طريق البخور».

تعرَّف معظمنا على «طريق الحرير» من قبل؛ تلك الطرق والشعاب التي سلكتها تجارة الحرير والأحجار الكريمة والتوابل والكنوز الأخرى التي لا تُقدر بثمن من آسيا إلى الغرب.

ومع أن الكثير من سكان العالم لا يعرفون الكثير عن طريق البخور، فقد كان في الواقع قد بلغ ذروته بينما يخرج طريق الحرير إلى النور شيئًا فشيئًا.

اتصل الطريقان ببعض بعد ذلك، فنشأت عنهما شبكة دولية لا مثيل لها في ذلك الوقت.

أنشأ المعينيون، الذين نهضوا بتجارة اللُّبَان والمُر نهضة كبيرة، مراكز تجارية على طول طريقهم المتجه شمالاً؛ كمدينة الحِجر ومدينة دادان (التي كانت في واحة العلا المعاصرة).

كانت الواحات، كهاتين الواحتين، تتمتع بوفرة مياهها وكثرة بساتينها؛ جنان غنَّاء وسط الصحراء الجرداء؛ فغدت محطة مثالية للمسافرين والتجار الذين أنهكهم المسير، بل إن بعض المعينيين استوطنوها ولم يغادروها، وتاجروا في أسواقها، وتزوجوا من أهلها (الدادانيين)، لكنهم ظلوا متمسكين بثقافتهم وعبادة آلهتهم المعينية. وصاروا مغتربين في تلك الواحات.

وما أكثر الأدلة على وجود مجتمع معيني في دادان، ومن أمثلتها النقوش المعينية المنحوتة على مقابر العلا. وهذا إنما يدل على أن المجتمع المعيني في دادان لم يفرط في أعرافه وأديانه.

لا شك أنك إذا أقمت طويلاً في مكان ما، فلا مفر من أن تنصهر أنت أو أبناؤك وأبناؤهم في نسيج ذلك المجتمع.

يتضح ذلك في اللوح أو المسلة الموجودة هنا؛ فهي تخبرنا عن اثنين من المعينيين يتقربان بقربان إلى كبير الآلهة عند اللحيانيين.

وأرى أن هذا شاهد من شواهد الانصهار والتأثير بين الثقافات في العصور القديمة، فهل لديكم تفسير آخر؟

رحلة شاقة في قلب الصحراء

فلنعد خطوة للوراء ونسأل: كيف استطاع الناس أن يقطعوا تلك المسافات قبل ثلاثة آلاف عام مضت؟

تخيل أنك تقطع مئات الأميال بين الفيافي الواسعة والصحاري الشاسعة والجبال الشامخة والهضاب الشاهقة، متوقفًا بين الحين والآخر في واحة من الواحات التي تمر عليها.

فتتبلغ بالطعام، وتطعم مطاياك، وتأخذ قسطًا من الراحة، وربما تبيع شيئًا من بضاعتك في أسواقها، ولعلك تشتري منها بعض السلع الغريبة التي دخلت الجزيرة العربية عبر الموانئ؛ ثم تواصل المسير. ثم تخيل أنك تقوم بنفس الشيء مرارًا وتكرارًا. فلا شك أنك ستحب حياة السفر والترحال؛ أو ربما كانت الرحلة تستحق القيام بها، وربما كانت بضاعتك بضاعة تستحق نقلها كل تلك الأميال. 

كان المسافر من جنوب الجزيرة العربية إلى موانئ البحر المتوسط يقطع 120 ألف ميل أو ألفي كيلومتر. وذكر الجغرافي والمؤلف اليوناني سترابو أن السفر من العقبة (ميناء على البحر الأحمر) إلى معين (في جنوب الجزيرة العربية) كان يستغرق 70 يومًا.

وإذا تحققت من هذه الرحلة على «خرائط جوجل»، فستخبرك بأن المسافة تتجاوز 2400 كيلومتر، وتستغرق نحو 29 ساعة بالسيارة؛ أي القيادة بدون توقف أكثر من يوم كامل؛ ولكن شتان بينها وبين 70 يومًا.

والشاهد من ذلك أن السبعين يومًا هذه كانت قفزة ثورية بالفعل في ذلك الوقت.

ثورة بثمانية حوافر

كان الجمل العربي وسيلة تلك الثورة وأداتها. فالناس يشربون لبنه ويأكلون لحمه منذ فجر التاريخ، لكنهم بدأوا يمتطونه ويضعون أحمالهم على ظهوره منذ ألف عام قبل الميلاد. وكان خير راحلة لمناخ كان، في ذلك الوقت، متزايد الجفاف، إذ يظل بدون طعام أو شراب لأيام، ويستغني عنهما بالطاقة المخزنة في سنامه الغني بالشحم (الجمل لا يخزن الماء في سنامه، وما هذا إلا سوء فهم منتشر منذ القدم).

ويستطيع حمل 240 كيلوجرامًا لمدة 48 يومًا متتالية ولا يزال يسير نحو 32 كيلومترًا في اليوم. ولم يفت التجار في العصور القديمة شيئًا أثناء التجهيز لسفرهم، فكثيرًا ما كانت قوافلهم تضم أعدادًا كبيرة من الإبل تسير جميعها معًا.

ولدينا نقش في بلاد الرافدين يعود للقرن الثامن قبل الميلاد يصف قافلة تضم 200 ناقة قادمة من تيماء؛ وهي مركز تجاري آخر على مسيرة 200 كيلومتر تقريبًا من العلا.

تجارة كبيرة

لا شك أن طول الرحلة ومشقتها فضلاً عن تزايد الطلب على اللُّبَان تسبب في ارتفاع سعره (وسعر النفائس الأخرى).

فكان على التجار دفع ثمن الطعام والشراب والمأوى لأنفسهم وإبلهم؛ ناهيك عن الضرائب! إذ يقول الكاتب الروماني بليني: ”قبل أن يصلوا إلى شاطئنا، كانت نفقاتهم تبلغ 688 دينارًا لكل ناقة، وعليهم الآن أن يدفعوا الضرائب لجُباتنا.“ ويُعتقد أن سعر الرطل الواحد من أفضل أنواع اللُّبَان كان يبلغ 24 من عملة السسترس الرومانية، وهو ما يعادل أجر العامل الماهر لمدة أسبوع كامل.

ويبدو أن ذلك الثمن الباهظ لم يمنع الرومان من شراء اللُّبَان، إذ يقول بليني إن الرومان أنفقوا ما لا يقل عن 100 مليون على اللُّبَان في ذلك الوقت، وهذا الكلام يتفق مع قصة مشهورة عن إمبراطور روماني حكم في زمن بليني: الإمبراطور نيرون.

فيُقال إنه استخدم مخزون عام كامل من اللُّبَان العربي المستورد في شعائر جنازة زوجته الثانية: بوبايا سابينا.

إذا علمت أن القافلة كانت تضم 200 ناقة، ويمكن أن تحمل الواحدة منها 240 كيلوجرامًا من اللُّبَان، وأن سعر الرطل الواحد يساوي أجرة عامل ماهر أسبوعًا كاملاً؛ فيمكنك عمل معادلاتك الرياضية لحساب أموال القافلة، ولكن علينا التسليم بشيء واحد، وهو أن اللُّبَان كان تجارة كبيرة. لم يكن طريق البخور يكتفي بنقل البخور بالطبع؛ بل كان ينقل التوابل والفراء والأقمشة النفيسة واللؤلؤ والذهب؛ وبعضها مستورد من آسيا ويتصل بالطرق عبر الموانئ وينضم إلى القوافل من هناك.

دادان.. حاضرة العالم

تمكن المعينيون من الهيمنة على تجارة القوافل ما يقرب من 200 عام، من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

ونمت المراكز التجارية التي أقاموها واجتذبت قبائل أخرى أرادت أن تقتسم الغنيمة معهم، ثم تحولت تلك القبائل إلى ممالك، مثل مملكة لحيان التي استقرت في دادان.

مرت الأيام وبسط هؤلاء اللحيانيون سيطرتهم على طرق التجارة، وظلت خاضعة لسلطانهم لمئات السنين، وازدهرت ثقافتهم وصارت دادان قبلة للتجار والمسافرين؛ وهذه حقيقة تدعمها الكثير من المكتشفات الأثرية في العلا وهي مستقر مملكة دادان.

ومن أمثلة هذه الاكتشافات مذابح بخور ضخمة تنم عن أن اللحيانيين لم يكتفوا بتجارة البخور وإنما استخدموه في شعائرهم.

جلب المسافرون كل جديد وجميل إلى دادان، ولم يبخلوا عليها بالمهارات والتقنيات والفنون والأساليب والأفكار.

وخير مثال يوضح هيمنة دادان الثقافية والاقتصادية في المنطقة؛ هو تلك التماثيل البديعة النابضة بالحياة التي يُعتقد أنها تجسد ملوك اللحيانيين وكهنتهم. يبلغ طولها مترين و30 سم، فتفوق الإنسان العادي طولاً، وهي أُعجوبة فنية في حد ذاتها، بأذرعها المفتولة وقوامها الممشوق وعضلات بطونها التي تُحسد عليها وسطحها الناعم كالحرير.

ولا يمكن إنكار القواسم المشتركة بين تقنيتها والعناصر الأسلوبية المستخدمة فيها وبين تماثيل مصر القديمة والشرق الأوسط القديم؛ فكلاهما أثر في الآخر وتأثر به. لم يحدد العلماء وقت ظهور هذه التماثيل على وجه اليقين، ولكن لا بدَّ أنها خرجت إلى النور بين القرنين الخامس والأول قبل الميلاد.

 وحين كانت دادان في أوج قوتها وبأسها (في عام 300 قبل الميلاد تقريبًا)، تأسست جارتها الحِجر وبدأت تكتسب أهميتها كمحطة مهمة على طريق البخور شيئًا فشيئًا؛ فزاحمت دادان وأضعفت قوتها الاقتصادية في المنطقة.

وأمست الحِجر القلب النابض الجديد لطريق البخور حين أصبحت موطئ قدم الأنباط في أقصى الجنوب في عام 100 قبل الميلاد تقريبًا. هل تذكرك كل هذه السنوات بشيء؟

للتنويه فقط: جاءت سنة 100 قبل الميلاد بعد مرور نحو 50 عامًا من نحت تمثال «فينوس دي ميلو» مبتور الذراعين في اليونان؛ ولعله كان بذراعيه آنذاك.

الحِجر.. ملتقى التجار

وجاء الأنباط؛ قبيلة ذات قوة وبأس من التجار الذين استقروا في البتراء (في الأردن اليوم) وسارعوا إلى توسيع رقعة أراضيهم في سبيل السيطرة على أهم الطرق التجارية في المنطقة.

هل تتذكر المذبح المكتشف في إيطاليا الذي ذكرناه في البداية؟ كان مذبحًا لأحد آلهة الشمس عند الأنباط. على ما يبدو أن الأنباط كانت لهم مستعمرة تجارية في مدينة بوتيولي الرومانية (بوتسوولي حاليًا)، بل إنهم بنوا معبدًا في عام 50 بعد الميلاد تقريبًا.

ومن الجلي أنهم كانوا شعبًا مقدامًا ومغوارًا؛. وهكذا أخضعوا الحِجر لسلطانهم.

تتميَّز البتراء عاصمة الأنباط بآثارها البديعة التي بناها الأنباط بها، وصارت شهرتها تحلق في الآفاق بفضلها؛ ولا ريب أنها تبوأت مكانة عالمية حين ظهرت في مشاهد فيلم «إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة».
 

تتميَّز البتراء عاصمة الأنباط بآثارها البديعة التي بناها الأنباط بها، وصارت شهرتها تحلق في الآفاق بفضلها؛ ولا ريب أنها تبوأت مكانة عالمية حين ظهرت في مشاهد فيلم «إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة».

وفي مستقرهم الجديد في الحِجر، بنى الأنباط صروحًا رائعة لم تمسها يد الزمن، ومن بين هذه المعالم الأثرية أماكن مصممة للمجالس الدينية ومذابح ومقابر بديعة بواجهات منحوتة في جبال الحَجَر الرملي. بل إن موقع الحِجْر الأثري بات أول موقع في المملكة يدخل قائمة اليونسكو للتراث العالمي في عام 2008.

كان بناء هذه المعالم الأثرية مفخرة تنم عن قوتهم التجارية أولاً والثقافية ثانيًا؛ ولا نحيد عن الصواب حين نقول إنهم اعتزوا بالحِجر لأنها كانت أهم مدنهم بعد البتراء، وكانت حاضرة لتجارة القوافل. وتحولت الحِجر إلى موقع أثري عريق يسحر الألباب ويأخذ بمجامع القلوب؛ لا يزال يبوح بأسراره الساحرة، ومنها اكتشاف عملة معدنية عليها صورة الملكة المصرية الشهيرة كليوباترا.

كما أخرجت لنا أرض الحِجر عملة معدنية أخرى تخبرنا بمن سيبسطون سلطانهم على مملكة الأنباط بعد ذلك.

يظهر رمز للجزيرة العربية على أحد جانبي هذه العملة المعدنية، فإذا أمعنت النظر فسترى جملاً في الأسفل يسارًا، ويوجد على الجانب الآخر صورة الإمبراطور الروماني تراجان.

فقد تمكن الرومان في عهده من ضم مملكة الأنباط إلى ملكهم في عام 106 بعد الميلاد، بعد انتهائهم من بناء مدرج «الكولوسيوم» الشهير في روما. وكانوا قد حاولوا الاستيلاء على الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو 75 عامًا، لكن هذه المحاولة انتهت بانسحاب 10,000 جندي روماني في وسط الصحراء القاحلة، ولاقوا في ذلك ما لاقوا من مشقة وعناء.

لكنهم نجحوا هذه المرة في تحويل مملكة الأنباط إلى مقاطعة ظلت خاضعة لسلطانهم إلى أن بدأت الإمبراطورية الرومانية في الانهيار في القرن الرابع الميلادي. وبعد نحو قرن من الزمان، هجر الناس مدينة الحِجر العظيمة، في ظروف يكتنفها الغموض، وما عادت سوى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد.

طريق البخور: إزاحة الرمال عن تراث عريق

وماذا عن طريق البخور؟ لا بأس، فلا يزال موجودًا. إلا أن الابتكار غير كل شيء مرة أخرى. فقد تبيَّن في العصر الروماني أن الإبحار في البحر الأحمر كان يسيرًا بمساعدة الرياح الموسمية وأدوات الملاحة الأفضل، فقلَّ استخدام التجار لطرق التجارة البرية. لكنها صارت الأساس لطرق الحج في العصور اللاحقة، أي منذ دخول الإسلام في القرن السابع الميلادي وما بعده. 

وأيًا كانت طريقة استخدامها، فقد اشتهرت الشبكة المعروفة بطريق البخور، واشتهرت المدن متعددة الثقافات آنذاك التي كان يمر بها. وشكل تطوره بلا شك حجر الأساس لما بات في العصور اللاحقة ركنًا أصيلاً من تاريخ المملكة؛ تاريخ عريق، محاط بالغموض والأسرار، حافل بحكايات من قديم الزمان، ومدفون تحت طبقات من الرمال في بعض الأحيان. ومن المؤكد أن طريق البخور ساهم في تطوير العالم الحديث كما نعرفه اليوم؛ ولا يزال العمل جاريًا لاكتشاف تاريخه العامر بالكنوز الأثرية والحكايات المثيرة؛ كنوز وحكايات ستواصل إبهارنا اليوم وغدًا.

وماذا عن اللُّبَان؟ لا يزال الناس من ثقافات مختلفة في شتى أرجاء العالم يستخدمون اللُّبَان في أغراض كثيرة، ولمعظمنا ذكريات وتجارب ومشاعر تربطنا به؛ فقد يجعلك تفكر في أجواء المنزل أو الوطن أو تستحضر ذكريات من أيام الطفولة والصبا. وحين تشم رائحته من الآن فصاعدًا، فربما تفكر أيضًا في جميع المغامرات التي وقعت على طول طريق البخور؛ حيث أسر اللُّبَان وجدان العالم.

آن دي بروين    |   التاريخ:٣١ مارس ٢٠٢٣

آن دي بروين
آن دي بروين واحدة من نخبة الكتاب المشاركين في مشروع «المتحف الحي» وتكتب نصوصًا وأدلة صوتية للمتاحف باستمرار، كما شاركت في تأليف كتاب بعنوان «لا تشترِ هذا الكتاب.. ريادة الأعمال للمبدعين» وآخر سبقه بعنوان «لا تشترِ هذا الكتاب.. إدارة الوقت للمبدعين»، وكلاهما صادر باللغة الإنجليزية. وتعشق الفن واللغات والتاريخ وتحب أن تأكل من عمل يدها. تابعوها على إنستغرام لمتابعة صور الفن والطعام التي تعرضها @Acertainmissbrown.